جميعنا متفق على أن الجنسية هي رابطة الانتماء والولاء الى وطن معين، أي الى أرض وشعب وسلطة ذات سيادة..
تنص المادة ١٥ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن “لكل فرد الحق بالتمتع بجنسية ما وأنه لا يجوز حرمان شخص من جنسيته تعسفا او انكار حقه في تغييرها..”
الجنسية في لبنان إما أن تُكتسب بصورة أصلية أي عن طريق رابطة الدم، و إما عن طريق رابطة الأرض، أو بصورة طارئة عن طريق التجنس، وذلك بمرسوم يمنح الأجنبي الجنسية اللبنانية في حال توافرت الشروط المحددة وإما بأحوال أخرى حُددت على سبيل الحصر لن آتي على ذكرها الآن في معرض هذا المقال، المُهم، أن لبنان بلد بالأساس وضعه خاص وذلك فيما يتعلق بعوامله السياسية والديمغرافية و توازناته الطائفية المتعددة التي انعكست بوضوح على كيفية شكل النظام القانوني الخاص بالجنسية سواء في مضمونه او في توقيت صدوره وتطوره!!
أضف الى انه قد تم وضع قواعد الجنسية اللبنانية بشكل متتابع و في مراحل تاريخية محددة بدأت عقب إنشاء دولة لبنان الكبير عام ١٩٢٠ وجاء قسم من هذه القواعد تنفيذا لأحكام معاهدة لوزان ١٩٢٣ التي حددت مصير سكان المناطق التي كانت خاضعة للسيطرة العثمانية وقد اصبح نظام الجنسية نافذا رسميا في لبنان بموجب القرار رقم ١٥ الصادر في ١٩ كانون الثاني ١٩٢٥ و هو القانون الأساسي الذي ينظم الجنسية اللبنانية، لكن هذا النظام لم ينجح في شمول جميع المقيمين على الأراضي اللبنانية، حيث وجدت فئات متعددة نفسها خارج إطار الجنسية لأسباب سياسية أو لوجستية أو حتى إدارية فمعايير هذا القانون في سياق تطبيقه العملي أحدث إرباكا كبيرا في تصنيف من يفترض اعتبارهم لبنانيين خاصة ان العديد من المقيمين على الأراضي اللبنانية لم يستوفوا الشروط المفروضة إما لأسباب لوجستية متل غياب الوثائق أو صعوبة الوصول الى الادارة او لأسباب سياسية تتعلق بعدم رغبة السلطات في منح الجنسية لفئات معينة وقد أدى هذا الارباك الى استثناء أعداد كبيرة من السكان من الحق بالجنسية مما جعلهم عرضة للتهميش القانوني والاجتماعي، وقد تجلى ذلك بوضوح في الإحصاء السكاني الشامل الذي أجري عام ١٩٣٢ والذي لا يزال يشكل مرجعا اساسيا في السجلات المدنية اللبنانية حتى اليوم ،خلال هذا الإحصاء صُنف بعض الافراد ضمن خانة “جنسية غير معينة” وتمت لاحقا تسوية أوضاعهم اداريا من خلال تصنيفهم ضمن فئة “قيد الدرس” اي انهم لا يعتبرون لبنانيين رسميا لكن وضعهم خاضع للمراقبة.
وفئة لم تتمكن من التسجيل في الاحصاء لأي سبب كان فأُدرجت تحت صفة “مكتومي القيد” وهي صفة تعني انعدام وجودهم القانوني من داخل سجلات الدولة وبمرور الزمن انتقلت هذه الصفة الى الابناء والأحفاد وأدى الى نشوء فئة اجتماعية متوارثة تعاني من انعدام الجنسية بكل ما يحمله من اثار اقتصادية وانسانية وقانونية..
اليوم ،كثير من الناس من فئة “قيد الدرس”تتقدم لنا لرفع دعوى لمنحها الجنسية اللبنانية علما ان افراد هذه الفئة ليسوا قلة وغالبيتهم الساحقة لا يملكون اي جنسية اخرى هؤلاء يعانون ليس قفط من انعدام الهوية القانونية بل يُحرمون ايضا من ابسط الحقوق الاساسية كالحصول على وظيفة رسمية او تسجيل عقد زواج او حتى دخول مستشفى حكومي -والأدهى من ذلك انهم في عدد كبير من الحالات – يستوفون تماما شروط القانون لاكتساب الجنسية اللبنانية،
فالقانون اللبناني وتحديدا القرار رقم ٢٥ ل.ر. الصادر عام ١٩٢٥ يحدد معيارين أساسيين لمنح الجنسية: الانتماء الى التابعية العثمانية سابقا والاقامة الدائمة على اراضي لبنان الكبير بتاريخ ٣٠ اب ١٩٢٤ وليس ذلك فحسب، بل ان القانون نفسه يجيز اثبات هذين العنصرين بجميع وسائل الاثبات بما في ذلك البينة الشخصية اي شهادة الشهود ومع ذلك نلاحظ ان المحاكم اللبنانية في معظم قراراتها لا تسير في هذا الاتجاه وكأنها تتعامل مع النص القانوني على انه وجهة نظر قابلة للتأجيل أو التجاهل!
قد نفهم ولو بتحفظ ،ان هناك حسابات ديمغرافية معقدة تتحكم في ملف الجنسية في بلد كلبنان حيث التوازنات الطائفية تُملي ما يُقال وتُجمّد ما ينبغي ان يُفعل، لكن أمام هذا الواقع هناك خياران لا ثالث لهما: إما أن نعدل القانون بصراحة وشفافية ونضع أسسا جديدة ومعلنة لاكتساب الجنسية او نطبق القانون كما هو بعدله وإنسانيته!
أمّا أن نُبقي النص في مكان والتطبيق في مكان آخر فهذا ظلم قانوني كبير ويشكل انتهاكا لمبدأ المساواة امام القانون الذي يفترض ان يكون حجر الأساس في دولة تحترم نفسها ومواطنيها والمقيمين على أرضها منذ حوالي القرن أيضا!!
و على أية حال فالمزاج في هكذا ملفات يجب ان يكون إنساني قبل كل شيء، فالإنسان هو الهدف الأول والأخير في هذه الحياة!..
الكاتبة: المحامية الدكتورة رنا الجمل.
أمينة سّر الهيئة الوطنية لحقوق الانسان في لبنان.
موقع سفير الشمال الإلكتروني