لم يعد الصراع الدولي اليوم مجرد منافسة إقتصادية أو سباق نفوذ سياسي، بل بات معركة مفتوحة على مصادر الثروات الطبيعية ومسارات الطاقة والممرات البحرية والبرية التي تشكّل شرايين الاقتصاد العالمي.
فمن شرق المتوسط إلى البحر الأحمر، ومن القوقاز إلى المحيط الهندي، تتشابك خطوط الغاز وأنابيب النفط ومسارات التجارة البحرية في شبكة معقدة تُعيد تشكيل العالم وتحدد قواعد القوة ومعادلات المستقبل.
إن التحول العالمي نحو الطاقة النظيفة رفع من أهمية الغاز حتى أصبح “سلاح القرن”، بينما تحوّلت الممرات البحرية – من قناة السويس إلى باب المندب ومضيق هرمز- إلى نقاط تحكم في التدفق التجاري العالمي.
وفي المقابل، تتنافس القوى الكبرى على الممرات البرية البديلة مثل “طريق الحرير” الصيني، – و”الممر الهندي” الشرق أوسطي- الأوروبي.
هذه المنافسة، تجعل كل دولة تقترب من إحدى هذه المسارات، أو تملك مخزوناً من الطاقة، دولة مستهدفة أو مُستقطبة أو مُهدَّدة. وهكذا تتحول الثروات من نفط وغاز ومواد أولية للطاقة المتجددة، من نعمة إقتصادية إلى عبء سياسي وأمني.
تسببت هذه المنافسة المفتوحة في تصاعد التوتر بين القوى الكبرى:
ـ الولايات المتحدة تحاول الحفاظ على هيمنتها على طرق التجارة البحرية، خصوصاً في الخليج والبحر الأحمر، وتواجه تمدد الصين في المحيط الهادئ.
ـ روسيا تناور عبر التحكم في إمدادات الغاز لأوروبا واستخدام عمقها الجغرافي ومواردها الضخمة كورقة ضغط.
ـ الصين تبني نفوذها الاقتصادي عبر”الحزام والطريق”، وتستثمر في الموانئ والبنى التحتية على امتداد القارات الثلاث.
هذه المواجهة لا تجري في العواصم الكبرى فقط، بل على أراضي الدول الهشة والمضطربة التي تتحول إلى ساحات صراع بالوكالة، ما يضع الإستقرار العالمي على حافة الإنفجار.
ولعلّ الاتحاد الأوروبي مثالاً صارخاً لدولة (بل قارة) متقدمة اقتصادياً لكنها ضعيفة جيوسياسياً من حيث أمن الطاقة. فبعد الحرب الأوكرانية، وجد الأوروبيون أنفسهم أمام صدمة: 40% من غازهم كان يأتي من روسيا. وما إن انقطع هذا الشريان حتى تراجعت الصناعة الألمانية، وارتفعت أسعار الطاقة بشكل غير مسبوق، وتصدعت وحدة القرار (داخل الإتحاد).
واذا كانت نقاط القوة الأوروبية، تتمثل باقتصاد ضخم وخبرة صناعية وتقنية. وقوة تشريعية وتنظيمية قادرة على التأثير عالمياً، وشبكة تحالفات واسعة ضمن الناتو.
إلا أن نقاط الضعف أصبحت جلية في الإعتماد الكبير على الطاقة الخارجية. والانقسامات السياسية الداخلية بين الشرق والغرب. وعدم امتلاك قوة عسكرية مستقلة.
ومآل هذا الوضع يجعل من أوروبا أمام ثلاث سيناريوهات:
– إما مزيد من الارتباط بالولايات المتحدة لضمان أمن الطاقة. أو تحالفات براغماتية مع دول الشرق الأوسط والبحر المتوسط لتأمين الغاز. أو تراجع نفوذ مفهوم “الاتحاد” لصالح سياسات وطنية أكثر استقلاليةً، وربما صعود تيارات تفكيكية.
والصراع على الثروات ينعكس أيضا بشكل مباشر على الشرق الأوسط الذي يجمع بين: أكبر احتياطي عالمي من الطاقة. وأهم الممرات البحرية (هرمز، باب المندب، قناة السويس)، وتعدد وتصاعد النزاعات الداخلية والإقليمية القابلة للاشتعال، مما يزيد من مخاطر إعادة رسم خريطة سياسية جديدة قد تحمل طابعاً عرقياً أو طائفياً، وفق مصالح القوى الكبرى لا مصالح شعوب المنطقة. ويظهر ذلك بوضوح في: مشاريع “الممرات” الاقتصادية المتنافسة عبر الخليج وتركيا وإسرائيل. وعدم الاستقرار في البحر الأحمر وسوريا والعراق. ومحاولات تطويع دول المنطقة ضمن محاور (الطاقة).
وبقراءة سريعة لمكامن القوة والضعف في الدول المتحكمة بالمشهد نجد أن:
ـ الولايات المتحدة، تتمتع بقوة سيطرة على البحار، وتحالفات واسعة، وقدرة على فرض العقوبات. إلا أنها تعاني من إرهاق استراتيجي بسبب تعدد الجبهات، ومنافسة داخلية سياسية حادة.
– روسيا تملك موارد طاقة هائلة، وجيش قادر على فرض النفوذ، وعمق جغرافي. إلا ان العقوبات الغربية خانقة، واقتصادها غير متنوع.
– الصين تتربع على قوة إقتصادية عملاقة، وتوسع استثماري عالمي. إلا أنها تفتقر إلى تحالفات عسكرية متينة، وتعتمد بشكل كبير على واردات الطاقة.
– أما تركيا وإيران وإسرائيل، فكل دولة تمتلك موقعاً جغرافياً استثنائياً يسمح لها بالتحكم بممرات ومصادر الطاقة، لكن كل منها يعاني من ضغوطات خارجية أو انقسامات داخلية تجعل قوتها غير مستقرة.
هذا المشهد الدولي يتجه نحو “تعددية متصارعة” حيث تختلط الطاقة بالجغرافيا، والتجارة بالهوية، والنفوذ بالقوة العسكرية.
وفي هذا السياق، يصبح الشرق الأوسط ساحة مفتوحة لإعادة تشكيل الخرائط، بينما يقف الإتحاد الأوروبي أمام اختبار وجودي.
إنها مرحلة إنتقالية قاسية، تُعيد ترتيب العالم، لكنها أيضاً لحظة تاريخية ستحدد وجه المستقبل لعقود قادمة.
موقع سفير الشمال الإلكتروني