يقول المثل “خذوا أسرارهم من صغارهم”.. وكم من صغير في هذا البلد يتسلّق منابر الاعلام في مرحلة الردّة السياسية المزرية ليكرّر معزوفات ببغائية تلقّنها في قبو سفارة أو عبر تعليمة مشفّرة وغير مشفّرة، والسرّ الذي لم يظهر في فلتات لسان أو صفحات وجه أتى أخيراً بشكل سافر ليفصح عن غاية الحملات التي تستهدف الرئيس نبيه بري بالعمل إلى حد الاستماتة على عدم تسنّمه سدة رئاسة مجلس النواب.
من هنا ندرك شراسة الهجوم الذي يقوده سمير جعجع على مقام رئاسة المجلس النيابي والتطاول عليه بجسارة غير مسبوقة في دبلوماسيات العمل السياسي في لبنان؛ فتارة يتّهمه على لسان الجريدة القواتية بـ “الانقلاب على القانون والدستور والهرطقة” و”التلطّي خلف خزعبلات إعلامية” وتارة بـ”ضرب النظام البرلماني وكلّ الأسس الديمقراطية”، وبالتوازي ورشة لا تهدأ في معراب تنكبّ على دراسة الأرقام وإحصاء الأصوات وتقييم موازين القوى التجييرية في المناطق التي يأمل فيها الرجل ومن ورائه في تحقيق خرق انتخابي ولو بمقعد شيعي واحد، لعلّ وعسى أن تنجح أكثرية نيابية طارئة في تنصيب رئيس للمجلس يكون ألعوبة في يد أصحاب القرار الخارجي ولأهداف أبعد ما تكون عن السيادة اللبنانية.
من هنا أيضاً نفهم حمأة الحملات الدعائية واستنفار الفضائيات اللبنانية والعربية ووسائل التواصل الاجتماعي وغزارة المواقف والتصريحات والتحرّكات التي يقوم بها سياديّو السفارات والتغيير لتعديل قانون الانتخاب تحت ذريعة الصوت الاغترابي والهدف ضمان أكثرية الأصوات وتحقيق أرجحية الفوز بغالبية المقاعد النيابية سعياً لاستكمال مخطط الإطباق على الحياة السياسية في لبنان..
وهذه هي البرهة الزمنية الفضلى وفق تقدير جعجع لكي يقدّم نفسه قائداً وموجّهاً ومرشداً لهذا الحراك، ويتوّج على أنه “صانع العهد الجديد للبنان”، ولعلّه ارتأى في سعيه لتحقيق هذا الحلم أن يرفع سقف المواجهة إلى مصاف الرئاسات الثلاث خصوصاً أنه “يصرف من كيس غيره”، وإذا فشل فلا شيء لديه ليخسره عملياً.. هكذا هو يرى.
الكلّ يعلم كما التاريخ أن الرئيس بري كان من الذين سهّلوا إصدار العفو الخاص عن جعجع والإفراج عنه من سجن وزارة الدفاع في تموز 2005، وسعى دوماً إلى إرساء علاقة هادئة ومتوازنة مع القوات اللبنانية كما مع سائر الأحزاب والتيارات في لبنان حتى مع أكثرها خصومة معه، وتنكّب دائماً حمل مسؤولية إنقاذ البلد في أي موقع كان يرى فيه خطراً على وحدته وانزلاقه إلى أتون الفتن والصراعات الداخلية، ولم يفوّت فرصة إلا وانتهزها لإرساء حوار وطني تحت قبة البرلمان حيث تلتقي ألوان الطيف السياسي لإيمانه بأن لبنان لا يقوم إلا باجتماع أبنائه على صيغة وطنية موحّدة ومستقلّة.
تحوّل “الصديق العزيز” لجعجع إلى خصم يصوّب عليه سهام الاستهداف مع علمه بأن ما يقوم به لن يكون سوى زوبعة في فنجان لن تلبث أن تتلاشى، إلا أنه على دأبه في عدم الاعتبار من أخطائه المتراكمة يمنّي النفس بنجاحه في هذا المسعى، وهو الذي انقلب على الرئيس سعد الحريري حليفه في معركة السيادة والاستقلال، وسعى بكل ثقله لضرب حضوره المؤثر في الشارع السنّي وإنهاء الحريرية السياسية وتقديم نفسه بديلاً عنه، دون أن يخجل من تنصيب نفسه زعيماً للسنّة وفق ما روّجت له الدوائر العاملة لديه، وما يزال يمعن في تعميق التشظّي في هذه الساحة ظاناً بأن اللبنانيين قد تجاوزوا جرائمه الفظيعة وفي مقدّمتها اغتيال الرئيس رشيد كرامي في واحدة من أكثر المراحل حساسية في تاريخ لبنان، والواقع الذي يتغافل عنه جعجع هو أن السنّة الذين ضحّوا من أجل الحفاظ على لبنان وهويته وعروبته لا ينساقون وراء شعارات جعجعية فارغة أو دعايات مغرضة بل طالما كانوا وسيبقون صمام الأمان للوطن في زمن المحن.
لا يمكن التقليل من المنحى التخريبي الذي يعتمده جعجع اليوم في ظل التحدّيات الداخلية والخارجية التي تواجه البلد وعلى رأسها استمرار الاعتداءات الإسرائيلية اليومية والتي تهدّد كيانه ووجوده، وهو يعلم تماماً أن مقتل لبنان يكمن في تزكية الخطاب التقسيمي الذي وصل إلى حدّ المطالبة بشطب مكوّن شعبي كامل من الخارطة الوطنية محاولاً اللعب على وتر الشحن الطائفي والمذهبي، ولا يتورّع عن إلغاء مكوّنات سياسية من أبناء جلدته ظنّاً منه أنها الفرصة السانحة له اليوم لاكتساح الساحة المسيحية انتخابياً واستغلال بعض الواجهات السنّية بما يتيح له الإمساك بقرار الطائفتين المارونية والسنيّة مقدّمة للسيطرة على مقدّرات السلطة في لبنان.
تلفت مصادر متابعة إلى أن جعجع ليس مرتاحاً إلى ما تذهب إليه الأمور في الشأن الداخلي، خصوصاً أن لا مؤشرات جدّية على تدخّل أمريكي مباشر يقلب الدفّة لمصلحته حيث إن انشغالات واشنطن في هذه المرحلة منصبّة على إنهاء الملف الفلسطيني، ولم تتّضح بعد خارطة عمل السفير الأمريكي الجديد إلى بيروت ميشال عيسى واتجاهاته في حسم تعقيدات الملف اللبناني، كما أن أي عدوان إسرائيلي واسع على لبنان قد لا تصب نتائجه – فيما لو حصل – في مصلحة جعجع، فقد تختلط الأوراق وتتبعثر إلى خارج الساحة اللبنانية بما يحوّل لبنان إلى تفصيل في مسرح التطوّرات الكبرى.
كثيرة هي “الأحلام الذكية” التي تراود جعجع هذه الأيام على بعد أشهر من الاستحقاق الانتخابي، ويبدو أنه قرّر خوض المعركة بكل الأسلحة المتوفّرة لديه ورفع الرايات الحمراء في وجه الكلّ بدءاً بالرئاسات الثلاث سعياً إلى تحقيق أهدافه السلطوية العتيدة، لذلك من المتوقّع حسب المصادر المتابعة أن يواصل رفع سقف مواقفه التصعيدية في أكثر من اتجاه بعناوين سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو قضائية، ومن غير المستبعد أن يصل لمرحلة الطعن في قانون الانتخاب وصولاً إلى تأجيلها خصوصاً إذا لم تصل مساعيه لإقرار التعديلات التي يطالب بها، فالرجل يعمل وفق معادلة “كل شيء أو لا شيء”.. وكالعادة فإن “لا شيء” إليه أقرب.
موقع سفير الشمال الإلكتروني