كتبت مريم مجدولين اللحام في نداء الوطن:
لم يكن السؤال عن "احتمالية السلام مع إسرائيل" يومًا مسألة تقنية أو تفاوضية صِرفة، بل هو سؤال هويّاتي عميق، سؤال يتحدّى الحق والتاريخ القديم والحديث، ويُحرج الذاكرة الجماعية لمجموعات لبنان المتناحرة على اختلاف الرؤى والأصول والمقاربات. فالسلام هنا ليس أداة حقن للدماء فقط، بل نقطة فصل جوهرية، وشهادة على إنهاك الجسد ذي الوجه العربي.
لا يقف لبنان على عتبة السلام أو الحرب أو المفاوضات المباشرة أو غير المباشرة مع إسرائيل إلا مواجهًا للّعنة المتوارثة: ماذا سيفعل "حزب الله"؟ ما هي خيارات أي تنظيم مسلّح فئوي كان ليكون؟ ماذا يقول الميدان ومن يلعب الدور الأقوى في الكنيست الإسرائيلي؟ ما هي المقاربة الواقعية؟ كيف يمكن للمواطن اللبناني المنحاز لمصالحه التعامل مع "حزب الله" بعد حرب الإسناد وكيف يمكنه التأثير؟ إلى أي حدّ سيتمكن معسكر الغرب من كسر معسكر الشرق في "لبنان السّاحة"، بسقف يجتث من التنظيم المسلّح العابر للحدود من دون تدمير لبنان الدولة أو الفكرة أو ما تبقى منهما ومن ثم أين تقف إيران؟... على أن تكون الإجابة مُجرّدة من تقاذف الأيديولوجيات.
"حزب الله" يريد: "أن يربح"
المشكلة ليست في سؤال "هل نصالح إسرائيل؟" بل في واقع أن المحلّل السياسي اللبناني لم يتصالح مع فكرة الانفصال عاطفيًا عن المسائل الدقيقة التي تُشكّل يومياته.
"حزب الله" يريد أن يربح. والربح في علم الصراع يعني تغيير موازين القوى وفرض قواعد اشتباك جديدة وتوسيع هامش القرار، أما ما يستطيع "حزب الله" السعي إلى تحقيقه، هو تثبيت نفسه كلاعب لا يمكن تجاوزه ومنع إسرائيل من فرض معادلة يعتبرها إذعانًا، وكسب كل الوقت السياسي لإعادة ترتيب بيته الداخلي وأوراق تحالفاته وموقعه، وهذا ليس انتصارًا أو ربحًا بل هو بالحدّ الأدنى إدارة منه للخسائر.
المنطق الذي يحكم "حزب الله" أقرب إلى معادلة النكران الإيجابي. هي عقلية التنظيمات المسلّحة حين تُدرك تآكل بيئتها الحاضنة وتطويق داعمها الإقليمي عن ضخّ القوة فيها عسكرية كانت أم مالية. "حزب الله" لا يملك ترف الخيارات المفتوحة لكنه يملك ترف التضليل الرمزي، إلا أن قلب الموازين يحتاج إلى اقتصاد (موازٍ) وغطاء اجتماعي (متنوّع) وحلفاء مستقرّين (إقليميين) وزمن سياسي و"حزب الله" يعاني نقصًا في الأربعة معًا. لذلك قد يسعى إلى فرض واقع جديد بما أنه مؤمن أن واقعه الاجتماعي المُغلق لم يتزحزح على قدر كبير، نعم. قد يُغامر أكثر مما يجب، نعم. قد يُقدّم نفسه كحالة "لا خيار أمامها إلا النصر"، نعم. لكن الحقيقة الأكثر صلابة هي أن التنظيم المسلّح حين يصل إلى لحظة اللّاخيار يكون عادة قد دخل مرحلة الخطر الاستراتيجي القصوى لأن من لا يملك خيارات، لا يملك أيضًا قدرة على المناورة الذكية بل يصبح أسير ردود الفعل. القوى التي تُغيّر الموازين حقًا ليست تلك التي تحصر أهلها بين الشهادة والنصر بل تلك التي تملك رفاهية اختيار متى تقاتل ومتى تنكفئ تكتيكيًا. وفي علم السياسية لا يكون تغيير موازين القوى بالانجراف داخل السردية.
انتهى "حزب الله" نصرالله
يقرأ العربي والغربي تحوّلاً في نمط السلطة عند "حزب الله" بعد اغتيال المؤسسين. مرحلة ما بعد الفعل الثوري عند "حزب الله" كحركة جهادية إيمانية مُسلّحة تحوّلت "بظرف صواريخ وبيجرز" من إنتاج التاريخ إلى عبء على المستقبل. لذا بدأ المجتمع الشيعي إنتاج خطاب جديد حول السيادة والبصيرة والمعنى والمصير، انتقل من تمجيد السلاح إلى مساءلته حتى ولو في الدوائر الداخلية المُغلقة، من الحماسة للحرب الضروس مع إسرائيل إلى التعب من استمرار تعليق المهمّات والخوف من الحرب ذاتها. انتقل إلى إعادة تعريف القوة وفائضها. دخل "حزب الله" مرحلة الأفول الرمزي حتى ولو بقي قويًا عسكريًا.
الطبيعة العقائدية الإيمانية لـ "حزب الله" تتحمّل وزر هذه الفاجعة وتعود الأسباب لخياراتها في سوريا وفي العراق وفي اليمن وأحقادها التاريخية ثم اختلاط مفاهيم الدفاع عن الأرض بالمفهوم الخامنئي للتمدد. بالتوازي مع ذلك في إسرائيل يطغى اليمين بكل أطيافه قوةً في الكنيست. ليس الأقوى عدديًا فحسب بل بنيويًا وشعبيًا. إسرائيل أمام تحوّل عميق في العقل الإسرائيلي، هُزم اليسار انتخابيًا ورمزيًا منذ انتفاضة الأقصى وما تلاها. سردية "السلام مقابل الأرض" باتت تُقرأ في الداخل الإسرائيلي كسذاجة استراتيجية لا كخيار عقلاني.
برلمان الحسم الإسرائيلي
ومع التغيّر الديموغرافي في أميركا، ومع اعتبار صهاينة إسرائيل بأن الطبقة الداعمة لهم في أميركا باتت من الإيفانجيليكيين لا من اليهود العلماني، يؤثر على الطريقة التي تتعامل فيها الإدارة الأميركية مع الكنيست، الأمر الذي أدى إلى تعاظم دور اليمين المتطرّف فيه، وتعاظم الدور الأمني للمجتمع الاسرائيلي الذي يرى نفسه في حصار دائم بلا السند المعهود.
حالياً يمكن اختصار الكنيست بثلاث كتل، اليمين القومي الصلب ممثلًا بنتنياهو والليكود، اليمين الديني المتطرّف الذي يقوده بن غفير وسموتريتش بعقيدة الدولة التوراتية، واليمين البراغماتي - الأمني المنحدر من بقايا الوسط واليسار لكنه يتموضع اليوم داخل منطق ردع صارم لا يختلف عن أي يمين آخر. أما اليسار بالمعنى الأيديولوجي التاريخي فتراجع إلى هامش اللاقرار وفقد دوره كقوة سياسية. ذلك كلّه لا يشي بانقسام بين خيار الحرب أو خيار السلام مع لبنان، بل بين درجات مختلفة من التشدّد، ما يجعل الخيار الإسرائيلي الطاغي تجاه "حزب الله" هو إدارة الصراع مع "الحزب" بمنطق الحسم الجذريّ، وفرض قواعد اشتباك تُضعف قدرته وتُقيّده داخل هامش أمني ضيّق، لا تركه يتحكّم بإيقاع المواجهة وفق آمال "الحزب إلهيين في لبنان" وفق سردية تقول إن الإسرائيلي لن يغامر بخسارة ما حقق. وعليه يمكن الجزم بأن إسرائيل 2025 - 2026 لن تلعب لعبة انتصار "حزب الله" الوقائي 2006 بل ستستبدل اللعبة بمسار أحاديّ يُقلّص قدرته على التحكّم بمصيره العسكري ويحوّله من لاعب رسم الإيقاع في السنوات الماضية إلى ميليشيا مجبورة على التكيّف مع القواعد الجديدة التي تُفرض عليها بمباركة لبنانية ضمنية من الشعب اللبناني ضحية حزب الله "القوي".
ماذا عن المعسكر الغربي؟
معسكر الغرب مُقيّد، إذ لا يناسبه انهيار "لبنان الدولة" تحت وطأة الفوضى الخلّاقة التي تُنتج هجرة نحو أوروبا والعالم العربي، ولا يريد حربًا إقليمية كُبرى مع إيران تنطلق شرارتها من الجنوب ولا إزعاجًا على الممر الاقتصادي الهندي - الشرق أوسطي - الأوروبي قيد الرّسم. وفي المقابل يملك المعسكر بالتعاون مع العرب، أدوات ضغط ضخمة تقتل "حزب الله" فتتكامل الصورة. نذكر من هذه الأدوات العقوبات المالية والاقتصادية على الشبكات المالية للتنظيم وعلى واجهاته المدنية الحاضنة مقرونة بتغطية دولية لأي استهدافات إسرائيلية نوعية تقوّض البنية العسكرية لـ "حزب الله" فتعطيل وظيفته الإقليمية وإقفال المتنفس السوري في وجه تعافيه.
نجح المعسكر الغربي بكل ذلك فعلًا، وكسر قدرة "حزب الله" على فرض الفيتو الاستراتيجي داخل الدولة، و"حزب الله" بدوره انتحر داخليًا أمام المزاج الشعبي العام، وجعل من شيعته المناصرين فئة مرفوضة أو محاصرة أو فليُسمّها ما شاء. وإيران في هذا المشهد ليست صاحبة شأن ولن تكون لأسباب موضوعية بحتة متعلّقة بأمنها الداخلي ورؤيتها لـ "حزب الله" كأكبر أوراق تفاوضها لا كأكبر عبء عليها وبالتالي لا يكون الحرس الثوري مهتمًا بإنقاذ.
معسكر الشرق المتهالك عالميًا يريد لبنان ساحة ضغط وشتان ما بين الإرادة والواقع، ومعسكر الغرب يريد لبنان ساحة مضبوطة وهو أمل يمكن البناء عليه كون ذلك مدعومًا بواقع شعبي لبناني متنوّع حاضن وجاهز لذلك.
بين السلام والعدميّة
الخلاصة التي تفرضها مجمل الوقائع، إذا نُزِّلت من فضاء الخطابة والتاريخ إلى أرض التحليل البارد ليست أن "السلام مع إسرائيل" خيار حمائي أو خيانة مُقنعة، بل إنه بات النتيجة الجيوسياسية المنطقية لمسار استُنزِفت فيه كل الأدوات الأخرى.
هي لحظة انتقالية تاريخية يعيشها لبنان، "حزب الله" فقد قدرته على إنتاج المعنى الجامع، أو حتى على إنتاج مقاومة، هو في مرحلة الصمود الفولكلوري المنفصل عن محيطه. وإسرائيل فقدت وهم اختراع كيانات أقلوية حمائية تحوطها، ولو ما زالت تسعى لذلك. ولبنان فقد قدرته على إعلان الحياد.
إسرائيل لا تريد سلامًا أو مصالحة وجدانية بل تودّ تثبيت واقع أمنيّ مرحليّ يحمي تفوّقها ويستثمر به. والغرب وإيران يحرصان على استقرار خرائطهما الاقتصادية والعسكرية. أما لبنان فهو الواقف على ضفتَي الخطر من دون رواية وطنية جامعة، فلا يكون السؤال: "لماذا لا نذهب إلى خيار السلام مع إسرائيل؟" بل "هل يملك لبنان القدرة على صياغة السلام الحتمي بشروطنا أم سنُساق إليه بشروط الرابحين الحاليين الذي أوهمنا "حزب الله" أنهم تحت السيطرة؟!
يمكن لـ "حزب الله" أن يختار الحرب الداخلية على أي خيار يجمع لبنان بإسرائيل على طاولة سلام. ويمكن للبنانيين عدم التجاوب. وفي ميزان السياسة الباردة، تثبت حقيقة واحدة: الأقوياء يفعلون ما يستطيعون والضعفاء يتعايشون مع ما لا مفرّ منه.