في عالم يموج بالأيديولوجيات والمدارس الفكرية والسياسية، اليمينية منها واليسارية، الدينية والعلمانية، الديمقراطية والسلطوية.
يبرز نهجٌ يكاد يجمع بينها جميعاً رغم اختلاف راياتها وتعدد تسمياتها – ألا وهي “سياسة الإلغاء”.
إنها استراتيجية دول وتيارات وقوى سياسية، تلجأ إليها لإقصاء خصومها، ليس عبر المنافسة أو الحوار أو التداول، بل عبر نفي الآخر وطمس حضوره وإلغاء حقه في المشاركة والتأثير.
إنها حالة، يتحوّل فيها الصراع السياسي من تنافس مشروع إلى معركة وجود. ومن إدارة تعددية إلى هندسةٍ أحادية للحاضر والمستقبل ليس لها حدود.
“سياسة الإلغاء” لا ترتبط بنظام معيّن…
فقد تمارسها ديمقراطيات منشغلة بترتيب “المشهد الوطني”..
كما تعتمدها، سلطويات تسعى إلى تحصين نفسها من كل “نقد ذاتي”..
وتتبناها، تيارات شعبوية تعتبر كل خصم “خائن وغير وطني”..
وتنتهجها مدارس فكرية ترى في الاختلاف “تهديداً للهوية بكل المعاني”..
ـ في الأنضمة الديمقراطية، يظهر الإلغاء عبر إحتكار الإعلام، وتطويع القضاء، وشيطنة المعارضة، وإنتاج سرديات وطنية تقصي المنافسين…
ـ في الأنظمة السلطوية، يتجلى عبر القمع والتضييق الأمني، وإحتكار العمل العام في كل الميادين…
ـ في الساحات الأيديولوجية، فتمارس عبر التكفير والتخوين والتشهير الفكري لكل المخالفين…
ورغم اختلاف الوسائل، إلا أن النتيجة واحدة: هندسة مجتمع على مقاس سلطة متسلطة، وليس على التنوع الحقيقي وما فيه من حكمة وحنكة وبساطة…
إلا أن “سياسة الإلغاء” تظهر في بعض الدول الشمولية، بشكل مؤسسي عبر سياسات دمج قسري للتنوع الثقافي والقيمي.. تحت شعار “الوحدة الوطنية”. فالأقليات تخضع لبرامج إعادة تشكيل الهوية، والإعلام لا يعرض إلا الرواية الرسمية، والمعارضة تكاد تُمحى من الذاكرة السياسية..
ودول أخرى، يقدم النظام نفسه باعتباره “حامي الهوية” في مواجهة المؤامرات الخارجية، ما يبرّر عملياً نفي وإلغاء أي وجود لكل القوى المنافسة..
أما الدول التي ترفع شعارالحرية والديمقراطية، تعتمد الإلغاء الناعم عبر الاستقطاب الذي يحوّل الخصوم إلى “أعداء” والمخالف الى جاهل بمصالح العباد والبلاد..
وتجعل من الاعلام ووسائل التواصل فقاعات فكرية لا يعترف أصحابها بشرعية الآخر بكل أبعاده الثقافية والفكرية والسياسية.
وبعض الدول تعمل على تهميش وتهشيم الأصوات الإصلاحية، وتُصنّف الحركات الاحتجاجية كتهديد للأمن والمجتمع والعجلة الإقتصادية.
والبعض يعيد صياغة الدستور بما يضمن إحتكار للسلطة المحلية.
أما في العالم الثالث، يتخذ الإلغاء أشكالاً متعددة:
إلغاء سياسي عبر القمع والاعتقال وإقصاء المعارضة.. وإلغاء إجتماعي عبر تسخيف وتجريم المجتمع المدني من إطلاق أي مبادرة.. وإلغاء إقتصادي عبر إحتكار الثروة والقرارات بيد قلة منحازة..
فتتحول الدولة إلى ملكية خاصة، تختذل فيها الأحزاب والنقابات والإعلام بكل خفة ومهارة.
وفي المشهد اللبناني، الفريد من نوعه، يقوم هذا النهج على الإلغاء المتبادل بين مكوناته الطائفية والمذهبية، فيحاول كل فريق فرض سرديته ونسخته في هذه الدولة. والنتيجة شلل وانهيارات وصراع دائم على تعريف معنى “الدولة”.
“سياسة الإلغاء” لا تقتل التعددية فقط، بل تفكك المجتمعات. من خلال إنقسامات عمودي تهدد الاستقرار، وتشل الإقتصاد، وتساهم في هجرة القدرات وتزيد من الاحتقان.
“سياسة الإلغاء” ليست مجرد خطأ سياسي، بل إنها مخاطر بنيوية، تؤدي الى نتيجة واحدة هي الانهيار أو الانفجار، والدول والتيارات والقوى السياسية التي تبني مستقبلها على قاعدة “إلغاء الخصم” إنما تلغي نفسها على المدى البعيد “بكل حسم وجزم”.
موقع سفير الشمال الإلكتروني