بعد أحداث 7 أيار 2008 في لبنان، وما تلاها من صدور القرار الاتهامي في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وُضع نجله سعد الحريري أمام خيار مصيري: الرد على حزب الله ومواجهة نفوذه بالقوة السياسية وربما العسكرية، أو الانكفاء والتعالي عن الجراح. اختار الحريري الابن، خلافًا لاندفاعات كثيرة في بيئته، طريق “الحقيقة” بدل “الثأر”، رافضًا الفتنة السنية – الشيعية، رافعًا شعار “نعرف أين تبدأ ولا نعرف أين تنتهي”.
وهكذا، آثر الخروج من السلطة وخسارة النفوذ السياسي، على الانزلاق في حرب أهلية جديدة.
بعد سنوات، وجد الرئيس السوري أحمد الشرع نفسه أمام مشهد شبيه في ظروف مختلفة. ورغم الجراح التي تركها حزب الله في سوريا، أعلن أنه لن يسلك درب الانتقام. ففي خطابه آنذاك قال: “الثأر يفتح أبوابًا لا تُغلق، أما الاستقرار فيُبنى بالصبر لا بالانتقام”. كانت رسالته مزدوجة: تجنّب صراع سني – شيعي يفاقم الانقسام الإقليمي، والتأكيد على أن القوة لا تحتاج إلى إثبات عبر الثأر.
بين لبنان وسوريا: تشابه في السلوك اختلاف في السياق
في لبنان، كان التعالي عن الجراح يعني تفادي انفجار أهلي في بلد هشّ، يقوم نظامه أصلاً على توازن طائفي دقيق.
في سوريا، حيث الكتلة السنية هي الغالبية الديموغرافية، مثّل قرار الشرع رسالة مزدوجة:
أولًا، أن دمشق لا تريد إشعال صراع سني – شيعي يفاقم الانقسام الإقليمي.
ثانيًا، أن القوة لا تحتاج إلى إثبات بالثأر.
ورغم اختلاف الظروف، فإن النتيجة واحدة: السنة، عبر قياداتهم، يختارون التعالي عن الجراح.
ثقة بالامتداد لا شعور بالضعف
قد يبدو للبعض أن هذا السلوك تسامح مبالغ فيه أو حتى ضعفًا سياسيًا، لكن القراءة الأعمق تكشف منطقًا آخر. فالسنة، باعتبارهم الطائفة الأكبر والأكثر امتدادًا جغرافيًا وديموغرافيًا في المنطقة العربية والإسلامية، لا يرون في الثأر وسيلة ضرورية لتأكيد حضورهم. على العكس، يظهر هذا السلوك شعورًا بـالاطمئنان إلى القوة الذاتية والقدرة على الاحتضان.
هذا الاطمئنان يختلف عن الشعور الطائفي لدى الأقليات التي ترى في أي تهديد خطرًا وجوديًا يستدعي ردًا فوريًا وحاسمًا. أما الطائفة الأكبر، فبوسعها أن تتسع، وأن تراهن على المستقبل بدل الغرق في الانتقام الآني.
بين السياسة والتاريخ
بالعودة إلى التاريخ الإسلامي والعربي، نرى أن سلوك التعالي عن الجراح أو تجنّب الثأر المباشر ليس جديدًا على القيادات السنّية، بل يمكن القول إنه تكوَّن عبر قرون نتيجة موقع هذه الطائفة في قلب المجال العربي – الإسلامي، وما وفّره لها من امتداد عددي وجغرافي وثقافي.
في صدر الإسلام: بعد وفاة النبي ﷺ واندلاع حروب الردّة، لم تُبنَ سياسة الدولة على تصفية جماعية أو انتقام، بل على استيعاب القبائل المتمرّدة ودمجها مجددًا في جسد الدولة.
في العصرين الأموي والعباسي: رغم الصراعات، كانت الغلبة دائمًا للتسويات، لا للإبادة. فالأمويون والعباسيون استوعبوا خصومهم إدراكًا أن الامتداد السني – العربي واسع ويحتمل الخلاف.
في التاريخ العثماني: تبنّت الدولة نهج الاحتواء للطوائف والمذاهب عبر “نظام الملل”، وهو ما عكس شعورًا بالقدرة على الاستيعاب من دون الحاجة إلى الانتقام أو فرض هوية واحدة بالقوة.
في التاريخ العربي الحديث: من لبنان بعد الحرب الأهلية إلى العراق بعد العام 2003، ظل جزء من النخب السنّية متمسكًا بخيار العملية السياسية والتسويات بدل الانزلاق في ثأر دموي مفتوح.
يقول المؤرخ العربي عبد الرحمن الجبرتي: “الطائفة الكبرى لا ترى في كل خطر محدود فناءً لها، بل أزمة تُستوعب”. وهذا يفسّر لماذا ظلّ السلوك السنّي أقرب إلى الاحتضان منه إلى الإقصاء.
ما يجمع هذه النماذج أن السنّة، بحكم كونهم الكتلة الأكبر، يميلون تاريخيًا إلى إدارة التعدد والاختلاف بمنطق الامتداد والاحتواء، أكثر من اللجوء إلى الانتقام. فالطائفة الكبرى لا ترى في الخطر المحدود تهديدًا لوجودها، بل مجرد أزمة قابلة للاستيعاب.
لكن هنا يكمن التناقض: هذا السلوك مكّن الطائفة السنية من تجنّب الانزلاق في حروب استنزاف طويلة، لكنه في المقابل جعلها في أحيان كثيرة تدفع أثمانًا سياسية باهظة، إذ فسّر الآخرون هذا “التعالي على الجراح” على أنه تساهل أو ضعف، فتمادوا في فرض الوقائع.
تحديات الحاضر والمستقبل
اليوم، تتكرر هذه الإشكالية في أكثر من ساحة:
في لبنان، خسر سعد الحريري نفوذه السياسي فيما عزز حزب الله موقعه، لأن “التعالي على الجراح” لم يترافق مع معادلة ردع متوازنة.
في سوريا، قد يوفّر خيار الشرع استقرارًا مرحليًا، لكنه يترك الجراح مفتوحة، وهو ما قد يعيد إنتاج الهشاشة عند أول اهتزاز.
في العراق، لا تزال النخب السنية عالقة بين المشاركة في العملية السياسية والانسحاب منها، في ظل غياب معادلة ردع تحميها من الإقصاء.
من الحريري في بيروت إلى الشرع في دمشق، يكرّر السنّة النهج ذاته: تجنّب الثأر وتعالي عن الجراح. إنه خيار له جذور عميقة في التاريخ السياسي والديني، يعكس ثقة بالامتداد وقدرة على الاحتواء. لكن التحدي اليوم لم يعد في “القدرة على التسامح”، بل في بناء معادلة ردع متوازنة تجعل هذا التسامح مصدر قوة، لا عبئًا يستفيد منه الآخرون.
موقع سفير الشمال الإلكتروني