كتب شربل صفير قي صحيفة "نداء الوطن":
بينما بدأ العدّ العكسي لانتهاء مهلة تسجيل اللبنانيين غير المقيمين يقترب من الصفر، يبدو أن ملفّ اقتراع المغتربين دخل مجددًا دوّامة المراوحة السياسية. فالمشهد الانتخابي المعلّق بين مجلسي الوزراء والنواب يعكس بوضوح عجز السلطة عن إدارة أحد أهم استحقاقات المشاركة الديموقراطية، فيما تتآكل ثقة الانتشار اللبناني يومًا بعد يوم، ويتراجع الإقبال على التسجيل في مؤشر مقلق على فتور الاغتراب تجاه وطنه الأم.
تؤكد المعطيات أن الاتجاه الغالب في الأيام المقبلة هو استمرار المراوحة حتى نهاية المهلة المحددة في 20 تشرين الثاني الحالي، إذ تميل الحكومة إلى إعادة الملف إلى المجلس النيابي لإقرار الصيغة النهائية، ما يهدد بتكرار مشهد تعطيل النصاب.
ويُنتظر أن تشكّل جلسة مجلس الوزراء محطة أساسية، بعدما أنهت اللجنة الوزارية برئاسة نائب رئيس الحكومة طارق متري اجتماعاتها ورفعت توصياتها التي تقضي بدمج مشروعي وزارتي الخارجية والداخلية، لتمديد مهلة التسجيل، والإبقاء على الدائرة السادسة عشرة، مع إلغاء البطاقة الممغنطة واستبدالها برمز رقمي لتسهيل العملية التقنية.
في المقابل، أعلن وزير العمل محمد حيدر أنه سيطرح باسم "الثنائي حزب الله – أمل" إلغاء اقتراع المغتربين بالكامل، فيما اقترح وزير الإعلام بول مرقص تعليق العمل بالمادة 112 كما جرى في الانتخابات الماضية لتفادي انفجار الخلاف داخل الحكومة. أما وزراء حزب "القوات اللبنانية" فقد أبدوا إصرارهم على حسم الملف في جلسة الخميس وإرسال مشروع القانون فورًا إلى مجلس النواب من دون تأخير، في محاولة لقطع طريق المماطلة وحماية حق المغتربين في التصويت.
ورغم أن الرؤساء عون وسلام وبري ووزير الداخلية أحمد الحجار لا يفوّتون فرصة لتأكيد التزامهم بإجراء الانتخابات في موعدها، فإن تباين مواقفهم حيال اقتراع المنتشرين يثير الشكوك حول جدية الالتزام. إذ يصطف بري في موقع الرافض لاقتراع المغتربين، بل يتولى عمليًا العرقلة، بحسب ما تفيد أوساط سياسية مطّلعة. وتضيف هذه الأوساط أن لا شيء مضمون بعد، في ظلّ وضع داخلي هش ومناخ إقليمي متوتر، مع التهديدات الإسرائيلية المتكرّرة ومعلومات عن مهلة ممنوحة للبنان لشهر واحد لحصر السلاح غير الشرعي بيد الدولة، وإلا ستتولّى إسرائيل "نزعه بالقوة". وتلفت إلى أن تنفيذ سيناريو كهذا، إن حصل، ستكون له تداعيات انتخابية قاسية على "حزب الله" داخل بيئته الشعبية المرهقة من الحروب والدمار، ما قد ينعكس في صناديق الاقتراع داخل لبنان وخارجه على حدّ سواء.
وفي خضمّ هذا السجال، أصدرت لجنة متابعة المؤتمر الاغترابي بيانًا حادّ اللهجة، اعتبرت فيه أن المؤسسات الدستورية "ملك الشعب لا شأنًا خاصًا بأصحاب المناصب"، واتهمت بري بـ"مصادرة القرار الوطني" عبر تجاهله العريضة الموقعة من 61 نائبًا لإدراج تعديل المادة 112 من قانون الانتخاب على جدول الأعمال.
وأكدت اللجنة أن الاقتراع في محل القيد لا محل الإقامة هو مبدأ دستوري ثابت، وأي تمييز بين المقيمين والمنتشرين يشكّل خرقًا للمادة السابعة من الدستور. كما طالبت بتثبيت حق المغتربين في التصويت لمرشحي دوائرهم داخل لبنان، واعتبرت أن هذا الحق "دستوري وأخلاقي غير قابل للمساومة". ودعت الحكومة إلى عدم الوقوف موقف المتفرّج واتخاذ قرار واضح بشأن آلية اقتراع المنتشرين، مع تمديد مهلة التسجيل الإلكتروني لتأمين أوسع مشاركة ممكنة في انتخابات 2026، رافضةً ما سمّته "طرح ذرّ الرماد في العيون" من خلال خيار التصويت في الدائرة 16 أو العودة إلى لبنان للاقتراع. وختمت بالتشديد على أن اللجنة، بالتعاون مع النواب السياديين والجمعيات الاغترابية، ستواصل العمل لتكريس حق المنتشرين في الاقتراع الكامل لجميع النواب الـ128، "حقًا لا ينتقصه تعطيل ولا مساومة".
أما الأرقام، فتعكس عمق الأزمة. إذ لم يُسجّل حتى الثالث من تشرين الثاني سوى 33,390 طلب تسجيل عبر منصة وزارة الخارجية، تسلّمت وزارة الداخلية منها 24,822 طلبًا للتدقيق، مقارنةً بـ 225,277 ناخبًا مسجلاً في انتخابات عام 2022، اقترع منهم 142,041 بنسبة قاربت 63 %، وهي أصوات ساهمت في إيصال 12 نائبًا تغييرياً إلى البرلمان.
ويصف ديبلوماسيون هذا التراجع بأنه "إنذار مبكر بانحسار الثقة"، عازين ذلك إلى غموض قانون الانتخاب، وتضارب المواقف الرسمية، واستمرار الانقسام السياسي الحاد الذي ينعكس سلبًا على حماسة الانتشار.
من جانبها، وجّهت رئيسة جمعية "بيت لبنان والعالم" بيتي هندي خلال طاولة مستديرة بعنوان "صوت الانتشار.. بأقلامكم" انتقادات قاسية إلى الحكومة، قائلة: "السلطة في غيبوبة الصمت، ورئيس الحكومة خذلنا حتى الآن... وغدًا لناظره قريب". وتساءلت: "لماذا يعتصم رئيس الجمهورية بالصمت إزاء ملف يعني مئات آلاف اللبنانيين المنتشرين؟".
أما الإعلامي وليد عبود فشدّد بدوره على رفض أي شكل من أشكال الانتقاص من حقوق اللبنانيين في الخارج، مؤكدًا أن المواطنة يجب أن تكون كاملة، والديمقراطية عادلة وشاملة، بعيدًا من الصورية والتمييز.
واعتبر أن اللبنانيين المنتشرين ليسوا أدوات انتخابية ظرفية ولا مخزونًا انتخابيًا في جيوب أحد، بل هم في صلب الهوية الوطنية ويمثلون حضور لبنان الحقيقي في العالم، داعيًا إلى احترام دورهم وصوتهم كجزء لا يتجزأ من العملية الديمقراطية.
في المحصلة، يتبدّى أن أزمة اقتراع المغتربين ليست مجرّد إشكالية تقنية أو قانونية، بل مرآة لأزمة أعمق تطاول الثقة بين اللبنانيين ودولتهم. فحين تتحوّل حقوق الانتشار إلى ورقة مساومة داخل أروقة السياسة، يتكرّس الشعور بالاغتراب مرتين: مرة عن الوطن، ومرة عن مؤسساته. ولعلّ الاختبار الحقيقي للحكومة والبرلمان في الأسابيع المقبلة ليس فقط في تمديد المهل أو تعديل القوانين، بل في استعادة صدقية العملية الانتخابية أمام اللبنانيين المنتشرين الذين لا يزالون يؤمنون بقدرتهم على صناعة الفرق.
The post السلطة تُربك حقّ المغتربين في التصويت appeared first on Lebtalks.