منذ زمن لم نشاهد المربع في المسرح ولا المسرح في المربع، وغالبية العروض تعتمد الإسم دون قيمة المسرح، ومسرحنا مجرد نشاطات فردية عابرة لعشاق يبحثون عن المسرح، وهذه علة تصيب كل العرب والمهرجانات تحديداً، والسبب واضح كوضوح الشمس، ويكمن من خوف النظام الحاكم منه حتى لو كرم الساقطين في الثقافة والفن والمسرح!
والأخطر اغراق ما نشاهده من عروض فردية بقارورة السياسة العنصرية التقسيمية بحجة الرأي والرأي الاخر، أو الانغماس الإيحائي بالجنس الرخيص والمفردات النابية الساقطة بحجة اضحاك الناس على هبلها، وأن الزمان يُشرع حضارة لا أخلاق فيها، ولا تقبل طرح قضية تفيد وتصرخ، والاخطر لا مظلوم ولا مظلومية في عالم يسخر مرتزقة المتمرسحين اليوم!
المسرح صرخة، ولكن كيف تقدمها ولماذا، وليس بالضرورة أن تكون ساذجة أو غبية، بل قيمتها باستغلال المسرح، وهو كتاب يعتمد الفرجة والصفعة...وهذا ما كان وجاء ووصلنا من مسرحية "كَسر القالب" على مسرح الأوديون - جل الديب ...كتابة جيزيل زرد، و إخراج مارلين زرد، ومن بطولة كوكبة أتقنت حضورها، ومنها طوني عيسى، وجوزيان الزير، وريتا سليمان، وهلا الملاح، وتلما عدس، وبارثينيوس ورديني، ورنا شقور معاصري، وباتيل أفيددسيان، وماري جوزي ابراهيم، وبيتر حنا، ورمزي سلطان، وايلي فونتيان، و مساعد المخرج روميو الهاشم..
#الفكرة
تعالج مسرحية "كَسر القالب" قضايا اجتماعية واقعية كثيرة نعيشها، وفكرتها نعانيها في كل لحظة، ونثرثر من حولها ولا نطرحها كهم وجب علاجه ومناقشته، ومنها الحفلات التكريمية السخيفة والاستغلالية، والكاتب المُهمل، وسيطرة الأم، والتربية، والحب والزواج وعشق إمرأة ثانية، والطلاق وما حل بالأولاد بعد الطلاق، والزمن، والاعتراف بالخطأ الخطيئة!
سيقول بعضكم "لا جديد"، وفي الحقيقة هذه القضايا التي نعيشها هي الجديد القديم المتجدد والمغيبة في دراما العرب وبالتحديد في المسرح اليوم، وتعتبر حالة من هبل اجتماعي لا يؤثر ولا ينفع ولا يضر...للأسف كل هذا الانحطاط الأخلاقي والفني والسياسي والثقافي والرياضي والتربوي- سلم قيم لم يعد متواجداً - الذي نعانيه يعود إلى تجاهلنا لهذه الحقائق ..وتكمن المشكلة العويصة بكيفية المعالجة، وفي "كَسر القالب" معالجة ذكية تحسب للكاتبة والتوضيح خارج المباشرة، وأيضاً هنا تحسب للمخرجة!
#العمل
تفتح الستارة على ديكور يحتل كل مساحة المسرح، مكتب منزلي، ومكتبة يدلان على ثقافة اصحابه، والطابق الثاني غير المزعج استخدم لتقديم الذاكرة بشطارة، والحضور مباشرة ل طلال -85 عاماً- "طوني عيسى" من خلف المكتب مع تواصله مع الجمهور واضحاك رشيق
دون تصنع، وتتوالى المحطات عبر ساعتين من الفرجة والمتابعة مع انتظار الجديد دون ملل، والغناء والشعر الحالة والحوار السجع في قالب متماسك نظيف لا تشوبه شوارعية ما يقدم رغم انغماس العمل بالمجتمع!
#النص والاخراج
يحسب للكاتبة جيزيل زرد رشاقتها في اختيار نصها وحواراتها، وكان جلياً استخدامها السجع " هذا لم يعد متواجداً في ادبيات نصوصنا الدرامية بعد الراحل المعلم محمد شامل"، هنا تفوقت جيزيل دون تعمد أو فرض عضلات، شعرنا ببساطة الجُمل مما انعكس على الطرح، والأهم جعل الممثلين يعيشون الحالة في النص قبل إدارة المخرج أو المخرجة.
انعكاس شخصية الكاتبة المهذبة كان واضحاً من خلال تمكنها في اختيار جمل تأديبية ومن خارج دعارة الكتابة كما هو حاصل بحجة الحرية...هنا تُبرع الكاتبة في دراسة نصها، ولا تقحم جملها بل تنبع من طبيعة شخوصها، ولا ترتجل هذا على حساب ذاك، لذلك العمل فيه أكثر من بطل، والكل في خدمة الفكرة، والنص يشبع الفكرة والدور، والدور في هذا العمل نجده من لحم ودم، لذلك الكاتبة تتعمد أن لا تخرج عن أخلاقيات الشخوص رغم تنقلها من المنزل إلى البار "نادي ليلي"، إلى غرفة النوم أكثر من مرة واكتشافنا الفطري لحميمية الحدث دون تعمد أو فرض فاضح أو تصنع كلاماً وتصرفاً، وتركت لذكاء المشاهد تصوير الحالة..
جيزيل زرد كاتبة العائلة، وثائرة خارج ضجيج الاستعراض والتكلف، ونحن في هذا الزمن الواضح الفاضح العبيط الكافر والجامح نحتاج إلى أدب فيه أخلاقيات الكتابة والنقد والتواصل...والأهم أن يدرك الكاتب حتى ينجح عمله خلال التنفيذ أن المسرح فكرة ونصاً رشيقاً ورؤية المخرج الذي يعمل على تطوير الحوار والشخصيات، وغير ذلك مضيعة للوقت!
#تمكنت المخرجة مارلين زرد أن تعيش النص، وتقدم رؤية شاملة وليست محصورة فقط بالممثلين، وهذا مكن المخرجة من أن تستغل كل زاوية في المسرح، وتفوقت في ذلك..
ويزواج الحالة استخدام الإضاءة المسطحة دون ازعاج، واضاءة الحالة دون تعمد، إضاءة مدروسة وليست ارتجالية مما أنجح اللعبة في المربع، وسهل ايصال رسائل الرؤية الفنية في ديكور للنظرة الأولى نجده تقليدياً، ومع حركة الممثلين والأحداث وتسهيل استخدامه من مكتب إلى غرفة نوم إلى بار وغيره، نعرف إنه كشريك هو بالفعل ليس تقليدياً، بل خشبة متطورة تصب في خدمة العمل ببساطة وعمق..
تمكنت المخرجة من استغلال كل المسرح بما حمل من ممثلين وديكور واضاءة وصوتيات وموسيقى وأغاني واستعراضات خارج مبالغات الرقص والألوان..نعم زوايا المسرح استخدمت بمسؤولية( حتى خشبة الفرن كانت حاضرة لتقديم الهاتف) فكانت سينوغرافية متقنة رائعة الجمال لمصلحة الانتعاش البصري، وزادها تألقاً إدارة الممثلين ليصبحوا تابعين للنص للديكور والسينوغرافيا ككل، ولا انفصامات بالمشاهدة المتنوعة ولا بمشاهد الممثل الفرد والجماعة في العمل.
لقد أدارت المخرجة الممثلين بذكاء شبابي لم نعد نتلمسه مع شباب هذه الأيام، وتمكنت من اقتحام جسد الممثل حيث حركته برشاقة تشعرني أن الجميع راقص باليه أو دبكة..الممثل يتقن دوره وحركته وصوته دون مبالغات، والجميع على وتيرة واحدة من الرشاقة وخفة الحركة والأداء المتقن، ومن كانت مساحة دوره صغيرة قدم مساحته بجمالية موفقة، وهذا يحسب لإدارة المخرجة التي كما أشرت إنها اعجبت بالفكرة، وعاشت النص، واختارت الممثلين الصح، وتصالحت مع مسرح عائلي اجتماعي انتقادي يعتمد على حوارات مسؤولة وفرجة بجمالية عالية ومحببة، والاكثار من جديد ننتظره!
##قد يكون المشهد الأول مطولاً يتطلب التعديل رغم علمي انه "فرش" للقصة. وايضاً مشهد النادي الليلي طويل جداً يحتاج إلى قراءة مختلفة، وربما القصد من ذلك تقديم مساحة للفنانة رندا التي تطل علينا كتجربة تمثيلية أولى وهي صاحبة الصوت الجميل في عالم الغناء!
وحبذا لو يُعمل على تعميق مشهد الشيخ الحكيم أكثر نصاً وحركة في الررؤية الإخراجية، هذا المشهد اضحك الجمهور الذي تجاوب معه، وقدم ممثلاً شاباً يعرف حدوده، كان بالاجدر دعم المشهد حوارياً أكثر رغم جمالياته...
أنا شخصياً انتهت عندي المسرحية مع مشهد الطفلة، نهاية مفتوحة رائعة...كان واضحاً النهاية الصح والعميقة، ولكن المخرجة أرادت إتمام الحكاية التي بدأت بفكرة التكريم، فتنتهي بحفل التكريم، وهنا اللغة المباشرة دون أن نصاب بالانزعاج، والدروس الحياتية للعبر، وحسم فكرة الحب الأول!
وتحسب للمخرجة هذا الامتداد الناجح لمسرح الحكواتي برؤية معاصرة، فهي استغلت الخبرية كحكاية، وادخلتها بتفاصيل الماضي بشطارة من خلال إدخال الماضي بالحاضر والعكس، وقدمت مفترق الزمان والعمر خاصة مع طلال - طوني بمهارة لم نتمكن من اكتشافها بانزعاج، بل بشعور بسيط من الكهولة إلى الشباب والعكس!
كما يحسب للمخرجة زرع شخصية فنية داخل الجمهور ليعمق التواصل، ولم تكذب، بل جعلته يصعد المسرح لتحية الجمهور، يضاف إلى كل ذلك الوجبات الغنائية الموسيقية المسكوبة في مكانها لحناً وكلاماً وتموضعاً...وتحية من العمق للمخرجة التي قدمت لوحة اضافية في تحية الممثلين للجمهور- فعلاً فرجة!
ولا ابالغ إن قلت:" أننا في متعة بصرية وسمعية ونحن نشاهد هذا الخليط الفني المطلوب في مسرحية (كَسر القالب)"!
#الممثلون
كان واضحاً محبة الممثلين لأدوارهم، والإلتزام برؤية المخرجة، لذلك النتيجة مرضية ومتفوقة تمثيلياً، ونحن هنا مع مجموعة من الممثلين قدموا تجربة ناجحة، ونذكر:
- طوني عيسى: لا خلاف إنه نجم العمل، رشيق، أنيق الحركة دون مبالغات، النطق سليم في الحوار والارتجال والغناء، أدى دور الشاب بذكاء، ودور العجوز باتقان، وتنقل بين حالة وحالة بتفوق من عجوز وعاشق وشاب ومغرم في بار وأب وفي غرفة النوم ببساطة خارج التصنع.
كما أدى الأغاني بجمالية لا تشوبها شائبة، والشخصيات التي لعبها لم تفلت منه، وعاش دوره دون ضعف!
طوني ممثل كبير رغم شبابه، ومنذ البداية أمنت به ولم يجعلني أندم، بل اسعد لكونه من النجوم اللبنانيين!
- جوزين الزير: حكاية خاصة، كانت المفاجأة وأنا أول مرة اشاهدها، فراشة العمل، تتقن تحريك جسدها كما النطق بحواراتها، ثرية في تأدية مشاهدها، وبسرعة تعيش الحالة، والجميل، وهذا مهم جداً لكل الفنانين، جوزيان مخارج حروفها صح ومفهومة وحينما تتهاضم على المسرح تشكل واقعية من صلب العمل، فنانة تلتزم بالنص وترتجل بحنكة، وهذا يعني أننا أمام ممثلة مسرح ناضجة ولديها الحضور المحبب مع طول يليق بها.
جوزيان سريعة البديهة، تتحرك بعفوية رغم أن الخطواط مرسومة اخراجياً، وخفيفة الظل، ولو استمرت مطولاً على المسرح لا نصاب بالملل منها، ومتصالحة مع صوتها وحركة جسدها، وتستخدم صوتها كنغم جميل لا يزعج...المسرح يعلم استخدام الصوت والجسد وهنا جوزيان تمتلك ما يتطلبه الفن والمسرح بجدارة!
جوزيان الزير إضافة لفن المسرح رغم ما يعانيه المسرح والفنان بشكل عام، وجوزيان من مكاسب "كَسر القالب" وما بعد ذلك، ونأمل أن تجد الفرص في بلد يقتل الفرص!
- ريتا سليمان: مطربة بصوت رخيم وحساس، وممثلة ممشوقة بقوام جميل..في بداية ظهورها كانت في اللحظات الأولى خجولة، لكنها بسرعة أدركت إنها على المسرح، وبدأت تتحرك وترقص وتبوح كما لو كانت خبيرة مسرحياً..ريتا أو رندا اقنعتنا شكلاً ومضموناً وتمثيلاً، وهي إن عشقت المسرح ستكون نجمته الاستعراضية المنافسة..ريتا وجه قامة صوت وموهبة للمستقبل .
- تلما عدس: يخربيتك شو شاطرة، وشو طاقة نشيطة وايجابية، وحينما شاهدتها في تحية الختام صغيرة بعمر البراعم استغربت تأديتها لدور إم طلال الكاتب ..
ممثلة شعلة بالحركة الرشيقة، ترقص كمتمرسة، وتمثل كهاوية، وهي ملتزمة بالنص والخط الإخراجي وهذا سيقدمها كممثلة جيدة للمستقبل...
- هلا الملاح: لعبت دور التاتا بنعومة وشطارة، شعرت تمثل منذ زمن، أنا لم اشاهدها من قبل، تعمدت ملاحقتها في تجسيد العجوز المقعدة، فوجدت ممثلة تطير بخفة دم ونطق على المسرح، كانت متقنة وجميلة الحضور والأداء والحركة..
- رنا شقور معاصري: إم زوجة طلال، رغم مساحة الدور الصغيرة والضيقة لعبت على الخشبة برشاقة، لم تفلت منها الشخصية، حضور يؤكد الموهبة، تحتاج إلى فرصة.
- بارثينيوس ورديني: ما أن اطل على خشبة المسرح راقصاً تلمسنا أن خلف هذه الاطلالة موهبة، وأيضاً رشيق كأنه يمثل منذ زمن، جسد مطواع، يلتفت إلى كل إشارة في المجاميع، وأدى دور الشيخ العجوز بذكاء يؤكد أننا أمام موهبة "مشرقتة"، والأيام ستؤكد صحة الكلام.
هو شاب واعد، مثقف، يتقبل النقد والملاحظة، وهذا مفتاح نجاح الموهوب...نصيحتي أن يلعب الكراكترات بكل انواعها من القاس إلى المعتوه وما شابه وسيتميز بها بالتأكيد!