لما حاصرت قوات السّلطان العثماني محمد الثاني مدينة القسطنطينية ما مهّد لإسقاطها في 29 أيّار من العام 1453، وحمل بعدها لقب “الفاتح”، راجت معلومة ذلك الحين وبعده بأنّ رجال الدين كانوا يعقدون إجتماعاً داخل المدينة المحاصرة لا لكي يتناقشوا في سبل فكّ الحصار عنها، ومنع سقوطها، إنّما للنقاش حول جدل نشب بينهم حول جنس الملائكة، هل هم ذكر أم أنثى!
بعد تلك الحادثة التي غيّرت مجرى الأحداث في المنطقة والعالم القديم أصبح وصف “جدل بيزنطي” يُضرب على كلّ نقاش عبثي يجري في غير وقته وزمانه، لتكون النتيجة في نهاية المطاف إنهيار وسقوط أيّ دولة أو مجتمع أو شعب يغرق في جدل لا ولن يصل في نهايته إلى أيّ نتيجة.
ما حصل يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين عندما عقد مجلس النوّاب على مدى يومين جلسة لمناقشة سياسة الحكومة ونُقلت مباشرة على محطات التلفزة، كادت تشبه في أحد جوانبها إجتماع الكرادلة في القسطنطينة المحاصرة في منتصف القرن الخامس عشر، بعدما بدت تلك الجلسة النيابية أشبه بجدل بيزنطي عبثي، وفي غير زمانه ومكانه.
فالجسلة التي عُقدت لمساءلة الحكومة ومناقشة سياستها برغم أنّه لم يمرّ على ولادتها ونيلها ثقة الحكومة أكثر من أربعة أشهر ونصف تقريباً، ظهرت وكأنّها “ترفٌ سياسي” في بلد يعاني فقراً وعوزاً على مختلف الصّعد، ويواجه أزمات مصيرية، وسط أزمات وتطورات بالغة الخطورة تحيط به في فلسطين المحتلة وسورية، واعتداءت إسرائيلية لا تتوقف عليه، وتهدّد مصيره وكيانه وتضع مستقبله على كفّ عفريت.
وما جعل جلسة مجلس النوّاب هذا الأسبوع تشبه إجتماع الكرادلة في القسطنطينية قبل زهاء 7 قرون و75 عاماً، أنّ أغلبية النوّاب الذين تحدثوا فيها، بعد طلبهم الكلام، قد تجاهلوا بشكل مستغرب ما يحصل في جنوب سورية، وتحديداً في محافظة السويداء، من تطوّرات مقلقة ألقت بتداعياتها على لبنان، وكذلك إستمرار المجازر التي يرتكبها العدو الإسرائليي في قطاع غزة، وسط إستمرار غاراته العدوانية على مناطق لبنانية، بشكل جعلهم يبدون وكأنّهم منفصلين عن الواقع ويعيشون في كوكب آخر.
وما جعل منسوب الإستغراب يرتفع ويطرح أسئلة وشبهات حول مواقف وتصريحات كتل ونوّاب، طلبهم نزع سلاح المقاومة في وقت ما يزال فيه لبنان يتعرّض لاعتداءات إسرائيلية، ودول المنطقة تعيش إضطرابات واسعة جعلت الأيّام المقبلة مقلقة ومصيرها غامض، بدل تحصين لبنان والحفاظ على الحدّ الأدنى من وحدته، بشكل يساعده على مواجهة التحدّيات الخطيرة التي يواجهها وتنتظره في المرحلة المقبلة.
وما أثار الإستغراب والدّهشة أكثر أنّ الجلسة النيابية تحوّلت في جزء كبير منها خلال يومين من جلسة لمساءلة الحكومة على سياستها، إلى تحويل بعض النواب تلك الجلسة واستغلالها لتحويلها نحو خطابات شعبوية وحملات إنتخابية قبل زهاء 10 أشهر على الإنتخابات النيابية المرتقبة العام المقبل، بعيداً عن الهدف الأساسي الذي يقف وراء انعقاد الجلسة، والصّفيح السّاخن الذي يقف فوقه لبنان والمنطقة.
موقع سفير الشمال الإلكتروني