رحل ديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، بعد أكثر من عشرين عامًا على الحرب التي غيّرت وجه العراق والمنطقة. رحل في عزلةٍ صامتةٍ تذكّر ببرودة الساسة الذين يدركون متأخرين أنهم خسروا التاريخ، وإن ربحوا السلطة يومًا.
لم يكن خبر موته حدثًا جللاً في الإعلام الأميركي، بل مرّ كنسمة صيفٍ في نشرات المساء الحارة، وكأن الذاكرة الجماعية للأمة التي خدعها قررت طيّ صفحته عن وعيٍ متعمّد.
لم يكن تشيني رجلاً عاديًا في تاريخ الولايات المتحدة. كان العقل المدبّر لغزو العراق عام 2003، والرأس الصلب الذي قاد تيار “المحافظين الجدد” من داخل البيت الأبيض نحو واحدة من أكثر الحروب كارثيةً في التاريخ الحديث. وبينما كان بوش يرفع شعارات “نشر الديمقراطية” و“محاربة الإرهاب”، كان تشيني من خلف الستار يصوغ السياسة الحقيقية: السيطرة على منابع النفط، وتكريس مشروع “أميركا الأحادية” بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ومعاقبة العراق الذي تجرأ على الخروج من المعادلة الأميركية بعد عام 1991.
تحت إشرافه، جرى تضليل العالم بتقارير مزوّرة عن أسلحة دمار شامل لم تكن موجودة. وقف وزير الخارجية كولن باول في مجلس الأمن يحمل أنابيب وهمية وصورًا مشكوكًا في أصلها، بينما كان تشيني يدير غرفة العمليات في البيت الأبيض مطمئنًا إلى أن آلة الإعلام الأميركي ستتولى الباقي. وبالفعل، جرى تسويق الحرب كأنها “واجب أخلاقي”، قبل أن يتضح لاحقًا أنها كانت جريمة سياسية مكتملة الأركان.
لم يكن تشيني يرى في العراق شعبًا، بل “خريطة موارد”. فشركته السابقة هاليبرتون، المتخصصة في الخدمات النفطية، حصلت على عقود إعمار بمليارات الدولارات بعد الغزو، في واحدة من أوقح صور تضارب المصالح بين المال والسياسة في التاريخ الأميركي الحديث. تحوّل العراق إلى ساحة فوضى مفتوحة، قُتل فيها مئات الآلاف من المدنيين، وتفككت مؤسسات الدولة، وتسللت قوى التطرف والطائفية تحت رعاية الفوضى التي صنعها بيده.
ورغم كل ذلك، ظل تشيني يرفض الاعتذار. في مقابلاته القليلة بعد خروجه من السلطة، كان يصرّ على أن “العراق أصبح أفضل من عهد صدام”، متجاهلًا مأساة بلدٍ محطّمٍ سياديًا وإنسانيًا. حتى حلفاؤه في الحزب الجمهوري بدأوا يتبرؤون من إرثه، وراح بعضهم يصفه بأنه “رجل الحرب الباردة الذي لم يفهم الشرق الأوسط يومًا”.
سقط ديك تشيني بعدما شاهد بأمّ عينيه الأميركيين أنفسهم يلعنون تلك الحقبة، ويرون في غزو العراق بداية انحدار صورة الولايات المتحدة كقوةٍ أخلاقية.
لقد عاش خزيه قبل موته، حين صار رمزًا للخداع والكذب السياسي، وأحد أبرز صُنّاع الكارثة التي ما زال الشرق الأوسط يدفع ثمنها إلى اليوم.
قد لا يعيد موته وطنًا دُمّر، ولا أرواحًا أُزهقت، لكنه يذكّر بأن من يكتبون التاريخ بالدم، ينتهون عادةً في عزلتهم، بلا تماثيل ولا مجد.
مرقص: لبنان يحتاج إلى الدعم السعودي في مسار الإصلاح
منسى التقى رئيس الحكومة اليونانية في أثينا: بحثٌ في مؤتمر دعم الجيش وتعزيز التعاون الثنائي
وزير الأشغال: أُؤيّد التفاوض بين لبنان وإسرائيل
The post وَسكتَ الديك الملعون!.. بقلم: د. عاصم عبد الرحمن appeared first on .