عامان على “إسناد غزة” وعام على “أولي البأس”.. وما بينهما تحوّلات جذرية كبرى كانت لتفضي إلى تغيير أنظمة وإعادة رسم الخرائط الجيوسياسية للمنطقة حيث تتقاطع فيها ملفات العالم كلّه وقضاياه الملحّة، ويبقى لبنان المحور الذي يستقطب الاتجاهات الجامحة لأطماع الشرق والغرب وللكيانات الاستعمارية، ولكنه بقي محافظاً على هويته وموقعه الفاعل في الحركة الجوهرية للتاريخ والجغرافيا، حيث أسهمت المقاومة، وعلى الرغم من التطوّرات الكونية المتسارعة خلال العامين المنصرمين، بتكريس دوره في التوازنات الدولية الكبرى.
ويبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإدارته كما رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو وحكومته مصرّان على الذهاب بعيداً في سعيهما للإطباق على المنطقة مهما كلّف الأمر.. فالأول يطمع إلى تحويل ما يسمّى الشرق الأوسط إلى قاعدة ارتكاز محورية وسطى يتحكّم من خلالها بالمسارات السياسية والاقتصادية في العالم، فيما يحلم الثاني بتحقيق مشروع “إسرائيل الكبرى” التملودي مستفيداً من السقف العالي الذي يمنحه إياه ترامب بإطلاق يده في إطالة أمد الحروب وارتكاب المجازر في فلسطين وسوريا ولبنان واليمن، وتوسيع نطاق عدوانه الذي طال إيران والعراق وإمارة قطر، والذي من المرجّح أن تتّسع دائرته إلى عواصم عربية وإسلامية أخرى.
لا بد من الإقرار أن الحلف الأمريكي – الصهيوني نجح في تحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية أبرزها:
– استثمار تقاطعات المصالح الإقليمية وتفعيلها بتطوّرات ميدانية دراماتيكية ومتسارعة أسقطت حكم آل الأسد خلال 11 يوماً فقط، وأخذت بسوريا ونظامها تحت حكم أحمد الشرع (الجولاني) إلى الحظيرة الأمريكية، وهذا يعني نقل دمشق من محور المقاومة إلى محور التطبيع والتسوية مع “إسرائيل”، وانضمامها بالتالي إلى دائرة حصار المقاومة في لبنان وقطع طرق التواصل مع كل من العراق وإيران.
– اتخاذ نتنياهو عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023 ذريعة للبدء في سياسة الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني على أنقاض التدمير الشامل لقطاع غزة وهول المجازر الفظيعة، وفي الوقت ذاته تنفيذ مشروع ترامب التوسّعي بتحويل الساحل الفلسطيني إلى “ريفييرا الشرق”، وهذا يعني محو جغرافية قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين منه، سواء إلى بعض دول أفريقيا أو إلى سيناء، وهو ما يقود إلى أزمة جديدة على الضفة المصرية قد يترتب عليها اجتياح إسرائيلي يستهدف احتلال أراضي من مصر وضمّها إلى نطاق مشروع “إسرائيل الكبرى”.
– شنّ حرب وحشية على لبنان في العام 2024، ولعلّ هذه الحرب الجديدة في أساليبها بدأت منذ اغتيال القيادي في حركة حماس صالح العاروري بتاريخ 2 كانون الثاني وبعده اغتيال القيادي في حزب الله السيد فؤاد شكر في 30 تموز، ليكسر العدو بذلك عقدة الضاحية الجنوبية ومعادلة توازن الردع، فضلاً عن استهداف كوادر المقاومة في الجنوب خلال معركة إسناد المقاومة الفلسطينية، وصولاً إلى تفجير أجهزة البيجر في 17 أيلول، ليستمر مسلسل الاغتيالات ويطال قادةً كباراً في المقاومة الإسلامية وعلى رأسهم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله وخليفته السيد هاشم صفي الدين، ولكن كل ذلك لم يمنع المقاومة من الاستمرار في معركة الإسناد حتى أعلن نتنياهو بدء الحرب البرية في أول تشرين الأول على مدى 66 يوماً دون أن يفلح في تحقيق أي إنجاز ميداني سوى في تدمير شريط قرى الحافة الأمامية المحاذية لفلسطين المحتلة.
– سياسياً، انتُخب العماد جوزف عون رئيساً للبنان وشكّل نواف سلام حكومة بمشاركة الثنائي الشيعي، وكان واضحاً منذ البداية أن هذه الحكومة جاءت لتنفّذ أجندة أمريكية مبرمجة زمنياً تمثلت بورقة الموفد الترامبي توم برّاك، وتنص على حصرية السلاح عنواناً لنزع سلاح المقاومة، وقد أقرّت حكومة سلام هذه الورقة كبرنامج عمل لها بمعزل عن ميثاقيتها الوطنية ومخاطرها على الاستقرار الداخلي، إلا أن واقعية قائد الجيش اللبناني رودولف هيكل حسمت الجدل بعدم إمكانية التنفيذ، وهذا يعني أن الحلف الأمريكي – الصهيوني سعى إلى تطويق وضرب كل ما يتعلق بالمقاومة في لبنان، وتحويل لبنان إلى كيان منزوع السلاح على غرار ما يحاك لسوريا والعراق وإزالة كل عائق أمام التغوّل الإسرائيلي.
إن إجراء دراسة تحليلية للأمور تفضي إلى ضرورة عدم التسليم بالوقائع واعتمادها ثابتاً لا متغيّر، فصحيح أن الحلف الأمريكي – الصهيوني حقق بعض أهدافه ولكنه لم يجنِ النتائج المتوخاة لعدة أسباب أهمها:
– تحويل سوريا إلى أرض متشظية غير مستقرة ومهدّدة بالتقسيم إلى دويلات وأقاليم ذات حكم ذاتي أو بتقاسم مناطق النفوذ فيها، وعلى الرغم من أن سوريا ضعيفة أفضل من سوريا قوية بالنسبة لأمريكا و”إسرائيل”، إلا أن هذا لا يمنع أطرافاً ودولاً فاعلة أخرى من أن يكون لها حضور فاعل على الأرض وأبرزها روسيا وتركيا – ولا نستثني الحضور الإيراني – ومشروعهما لا يتلاقى بأي شكل من الأشكال مع المشروع الأمريكي – الصهيوني في سوريا تحديداً، وقد يؤدي هذا التناقض لتحويل سوريا إلى ساحة اشتباك عسكري – أمني – اقتصادي لن تنجو دول المحيط من تأثيراته المدمّرة.
– عدم القدرة على إنهاء المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة على الرغم من استمرار الحرب الوحشية عليها لأكثر من عامين بدعم أمريكي وغربي لا محدود، ومن التدمير الشامل واغتيال كبار قادة حركة حماس داخل فلسطين وخارجها، فيما يتصاعد صراخ الأزمة من داخل أروقة الحرب والسياسة في “إٍسرائيل”، فنتنياهو يمعن في الهروب إلى الأمام بخياراته الإرهابية إنقاذاً لنفسه وحكومته من السقوط أما ضباطه المنخرطون في هذه الخيارات يحذرون من أن استمرار الاستنزاف البشري قد يؤدي إلى انهيار غير محسوب، ولما ينجز نتنياهو بعد أي من أهدافه المعلنة وما يزال يراوح مكانه استراتيجياً.
– عدم القدرة على ضرب المقاومة في لبنان، وهذا ما دفع نتنياهو إلى إعلان وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024 بعد 66 يوما من المواجهات الضارية عند الحدود منع خلالها المقاومون عشرات آلاف جنود الاحتلال من التقدّم ولو لعشرات الأمتار داخل الحدود اللبنانية، وهذا الصمود الأسطوري والخسائر الفادحة التي تكّبدها العدو أجبر نتنياهو على تعديل مسار اجتياحاته من لبنان إلى سوريا، والانتقال إلى الضغط السياسي التي تتولاه واشنطن لإضعاف المقاومة ودورها في حماية لبنان.
– انهزام الحلف الأمريكي – الإسرائيلي في الحرب على إيران، فخلال 12 يوماً من المواجهات الصاروخية تمكنّت إيران من إلحاق الخسائر الجسيمة في العمق الإسرائيلي ما دفع نتنياهو للجوء إلى واشنطن لإخراجه من مأزقه الميداني والذي انتهى مؤقتاً باستهداف أمريكي لبعض المنشآت النووية وتبعه رد إيراني على قاعدة العديد الأمريكية في قطر، وفي النتيجة أن حماقة ترامب ونتنياهو ارتدّت عليهما سلباً حيث أدّى استهداف إيران إلى توحيد الشعب والنظام خلف القيادة الإيرانية، وأعطتها زخماً إضافياً ودافعاً ضرورياً للاستعداد للجولة الأخرى من الحرب التي لن تقف عند عتبة التبادل الصاروخي.
– دفعت الحرب الأمريكية – الإسرائيلية على لبنان المقاومة إلى إعادة ترتيب أوضاعها الإدارية والمالية والتنظيمية والعسكرية والأمنية من خلال ترميم قدراتها الشاملة، وإعادة التموضع السياسي الذي يضمن استمرارها في أداء واجبها في حماية لبنان سياسياً وميدانياً، فضلاً عن أن الحرب أفضت إلى تكريس موقع المقاومة في الساحتين الإقليمية والدولية وليس الداخلية فحسب، ولعلّ ربط سلاح المقاومة بمستقبل لبنان وفق منظومة الضغط الأمريكية – الإسرائيلية هو سيف ذو حدين، حيث يظهر محورية السلاح في منظور السياسة الاستعمارية، بما يقود إلى التمسّك به كعنصر قوة لحماية لبنان.
The post عام التحوّلات والثوابت.. سلاح المقاومة ومحورية الملفات والقضايا !… وسام مصطفى appeared first on .