إن هذا الطرح لا يستهدف نخبة المحللين السياسيين بقدر ما هو موجه للمتلقي الذي يبحث عن فهم أعمق للحقائق التاريخية والسياسية التي تشكل واقعنا المعاصر. إنه سعي لفهم التطورات الراهنة من خلال استقراء دقيق لبعض المحطات المفصلية في التاريخ الحديث.
لإدراك السياق الحالي، يتعين علينا استيعاب ثلاث مرتكزات أساسية تساهم في بلورة رؤية استراتيجية واضحة:
أولاً: إعادة قراءة وعد بلفور وسياقاته الدولية:
لقد جرى ترسيخ الاعتقاد بأن وعد بلفور كان صنيعة بريطانية خالصة، غير أن التحقيق في وثائق التاريخ يكشف عن تعقيدات أكبر. فقد شهدت الفترة ما بين 1945 و1948 خسائر بشرية كبيرة للجانب البريطاني، تجاوزت أربعة آلاف جندي بين قتيل وجريح، خلال مواجهاتها في فلسطين. كانت هذه المواجهات دفاعاً عن جزء من الأراضي التي لم تكن تحت السيطرة اليهودية بشكل كامل، حيث كانت السيطرة اليهودية على عقارات معينة قد تمت عبر عمليات شراء تعود إلى عهد محمد علي باشا والإمبراطورية العثمانية وعدد من الأطراف الإقليمية.
خلال هذه الحقبة، بينما كانت القوى الغربية كالولايات المتحدة وأوروبا متحالفة مع بريطانيا، ورفضت تزويد الفصائل اليهودية المسلحة (مثل الأرغون والهاغاناه) بالسلاح، برز دور الاتحاد السوفيتي الذي قدم دعماً عسكرياً لوجستياً غير مسبوق. فُتحت قنوات إمداد ضخمة شملت حتى الطائرات الحربية، وتم توجيهها عبر يوغوسلافيا إلى دول عربية، ومنها إلى الحجاز، ومن ثم نقلت بحراً وبراً إلى تلك الفصائل. ومن المثير للتأمل أن ما يقارب 60% من المهاجرين اليهود، الذين قدموا من بلدان كانت خاضعة للنفوذ السوفيتي، تم تهريبهم إلى فلسطين عبر دول الطوق العربية، بينما اشترطت أوروبا وأمريكا الحصول على تأشيرات مسبقة لأي يهودي يرغب في الهجرة إلى فلسطين.
هذا المشهد التاريخي يحاكي، بصورة لافتة، بعض السلوكيات الراهنة حيث يقطع اليمن الامداد البحري عن اسرائيل فتُفتح بعض الدول العربية طرق الدعم من مواد غذائية واسلحة، اضافة الى تهريب الاسلحة الى اسرائيل بسفن عربية.
تجدر الإشارة إلى أن مواقف الرؤساء الأمريكيين تجاه القضية اليهودية في أمريكا كانت معقدة ومتغيرة، ولم يصبح النفوذ اليهودي راسخاً إلا بعد أحداث سياسية كبرى. فقد عرف عن بعض الرؤساء، مثل نيكسون، مواقف لم تكن داعمة لإسرائيل في البداية، لكنها تحولت لاحقاً بفعل عوامل إقليمية ودولية، منها ما يتعلق بالتعامل مع الأطراف العربية التي صدمت مقدار تعاونهم مع اسرائيل، وهو ما يشير إلى مدى تعقيد العلاقات الدولية وتأثير المصالح المتبادلة.
ثانياً: مراجعة العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل:
إن المفهوم السائد بأن الولايات المتحدة هي المهيمنة على إسرائيل يحتاج إلى إعادة تقييم. الواقع يشير إلى أن اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة يمتلك نفوذاً كبيراً يؤثر في مجرى الانتخابات الرئاسية، حيث يُطرح على المرشحين سؤال عن التزاماتهم تجاه إسرائيل قبل الحصول على الدعم. هذا يعكس ديناميكية علاقة تتسم بتبادل التأثير، حيث لا تقتصر السيطرة على طرف واحد.
تتجاوز إسرائيل نفوذها في الولايات المتحدة، لتفرض حضوراً قوياً في روسيا الاتحادية، التي قدمت اعتذاراً رسمياً عن تصريحات لوزير خارجيتها تتعلق بمسألة تاريخية حساسة. هذا يوضح أن نقد إسرائيل، حتى على الصعيد التاريخي، قد يواجه ردود فعل قوية، مما يحد من مساحات المعارضة السياسية. إن مواقف روسيا تجاه قضايا المنطقة والدول العربية قد تغيرت بشكل ملحوظ عبر التاريخ، فمن الاعتراف المبكر بإسرائيل إلى التعامل ببراغماتية مع قوى إقليمية مختلفة اليوم، مما يعكس مرونة في سياستها الخارجية تستند إلى مصالحها الاستراتيجية والتي هي بالاساس مع اليهود الروس وثم اسرائيل.
كما يمكنكم مراجعة اسلوب وطريقة تعامل الروس مع بشار الاسد، وكيف اليوم يتصرفون بكل احترام ووقار مع احمد الشرع الذي يطالبهم اما مغادرة القاعدة البحرية في طرطوس او دفع بدل استثمار لمدة عشر سنوات مع تقييد حركة الروس في سوريا.
ثالثاً: دور العرب في نشأة الدولة اليهودية:
قد يبدو هذا الطرح صادماً، لكن مع بداية 1900 هناك الكثير من العرب كانت، في جوهرها، مؤيدة لقيام دولة يهودية، خاصة في سياق التخلص من النفوذ العثماني. ويعتقد البعض أن الدعم المالي الذي تلقته بعض الحركات العربية، حتى بعد سقوط الخلافة الإسلامية، كان ذا أصول يهودية. هذا يشير إلى أن ما رفض الخليفة العثماني "عبد الحميد الثاني" منحه لليهود، قد وافق عليه بعض العرب في حال انتصارهم على العثمانيين. هذه المفارقة التاريخية تستدعي وقفة تأمل في التداخلات المعقدة للمصالح في تلك الحقبة.
بناءً على هذا الاستقراء التاريخي، يتضح أن إسرائيل تسعى لإبعاد أي وسيط بينها وبين الفلسطينيين أو الأطراف المستهدفة عربياً. لقد شهدنا استهدافاً لأطراف إقليمية كقطر، مما يفسر رغبة إسرائيل في إزاحتها من المعادلة الفلسطينية. إن إسرائيل لن تقبل بأي نظام أو دولة تسعى لدعم الفلسطينيين أو تخفيف الأعباء عنهم، بل ستعمل على استهداف أي دولة عربية تحاول التوسط، حتى لو كان ذلك على حساب الفلسطينيين، عبر القصف أو زعزعة الاستقرار. هذا يعني فرض قيود مشددة على أي حديث عن القضية الفلسطينية من قبل أي طرف عربي.
بالتوازي مع ذلك، تسعى إسرائيل لتقويض العلاقات الأمريكية مع الدول العربية. فإذا كان قصف دولة عربية يثير قلق واشنطن، فمن المرجح أن تقدم عليه إسرائيل، إيماناً منها بأنها القوة المهيمنة على المنطقة. وإنها تضع الولايات المتحدة أمام خيار بين علاقاتها مع إسرائيل أو مع الدول العربية. هذا يعني أن إسرائيل لن تقبل بالتدخل الأمريكي كوسيط في المنطقة، بل تطالب واشنطن بتنفيذ سياستها إذا أرادت البقاء. قد يأتي يوم نجد فيه الدول، التي وصفت أمريكا بالعدو، تناشدها للتدخل لتخفيف حدة النيران التي تسعى إسرائيل لإشعالها في المنطقة، وقد يصبح حال أمريكا مشابهاً لما آلت إليه بريطانيا تاريخياً.
اليوم اسرائيل وضعت قطر امام خيار صعب وهو انها اذا ارادت ان تتجنب زعزعة استقرارها وسقوظ نظامها هو الابتعاد عن القضية الفلسطينية، وهذا الامر بدا التركي يستشعره كما بقية الدول العربية.
وحتى تركيا، فقد تعرضت لقصف إسرائيلي متكرر في سوريا، والمسألة مسألة وقت قبل أن تتجه إما نحو علمنة أعمق أو مواجهة تصادم محتمل. وفي الختام، يبدو أن الولايات المتحدة وأوروبا ستتدخلان لصالح إسرائيل في أي مواجهة كبرى، لان امريكا ليس لها مصالح داخل امريكا الا مع اللوبي اليهود الذين يسيطرون على 40% من مقدرات امريكاوسيطرة تامة على الاعلام وصناعة الراي العام في امريكا.
لقد آن الأوان لإعادة ترتيب المشهد السياسي بوعي، وتجاوز الانفصال عن الواقع الذي استمر منذ منتصف القرن الماضي. إن ما قامت به إسرائيل قد يتجاوز حتى علم أو اهتمام الإدارة الأمريكية، لأن أمن إسرائيل هو أولويتها القصوى. وقد عبر المبعوثون الأمريكيون عن عدم امتلاكهم أي ضمانات أو قدرة على الضغط على إسرائيل.
في الختام، يمكن القول إن العرب قد خسروا المkاwمة، بل وحتى الولايات المتحدة قد خسرتها، فلو بقيت المkاwمة، لظلت إسرائيل في حاجة إلى أمريكا. أما اليوم، فإسرائيل لا تحتاج إلى أحد.