في قلب سوق طرابلس القديمة، حيث تمتزج أصوات الباعة برائحة التاريخ وضجيج الأزقة، يقف الطربوش الأحمر القاني في دكان محمد الشعار، الرجل الذي يكاد يكون الوحيد في لبنان الذي لا يزال يصنع هذه القبعة التقليدية بشرّابتها السوداء.
هنا، بين طيات هذا المكان الضيق، تتجسد ذاكرة مدينة بأكملها، وتحيا الحرفة العريقة التي تكاد تختفي من العالم.
وفي مقابلة خاصة أجرتها “”، يقول الشعار:
“ورثتُ هذه الحرفة عن جدّي، وعائلتنا تمارسها منذ أكثر من 125 عاماً. اليوم أعمل وحدي تقريباً كآخر صانع طرابيش في لبنان. ورغم قلّة الطلب محلياً، ما زلت أتلقى طلبات من خارج البلاد وأصدّر بين حين وآخر، وأسافر إلى العراق كل فترة لتأمين المواد اللازمة للصناعة.
ويضيف: “كذلك يقصدني العديد من السيّاح الذين يشترون الطربوش كتذكار يحملون معه قطعة من روح طرابلس وتاريخها”.
وعن أسعار الطرابيش يقول الشعار: “أسعار الطرابيش تتراوح بين 30 و40 دولاراً بحسب النوع والحجم، وهناك أيضاً طرابيش مخصّصة للنساء بألوان وتصاميم مختلفة”. ويتابع: “رغم كل الأزمات والصعوبات التي مرّ بها لبنان، أنا مستمر في عملي، لأنني أعتبر هذه الصناعة أمانة. لو تركتها، لانتهت معها ذاكرة كاملة”.
يعود أصل الطربوش إلى مدينة فاس المغربية، حيث صُنع للمرة الأولى، قبل أن ينتقل إلى الدولة العثمانية التي جعلت منه غطاءً رسمياً للرأس ورمزاً للوجاهة والسلطة. وانتشر سريعاً في مدن المشرق العربي مثل دمشق وبيروت والقاهرة، ليصبح جزءاً من الزيّ اليومي للوجهاء والعلماء والتجار. ارتبط لونه الأحمر القاني بالهيبة والوقار، فيما شكلت الشرّابة السوداء علامة فارقة تزيده أناقة ووقاراً.
ومع دخول اللباس الغربي، تراجع حضوره تدريجياً حتى كاد أن يختفي، لولا إصرار قلة من الحرفيين على إبقائه حيّاً، ومن بينهم محمد الشعار، آخر صانعيه في لبنان.
في محله المتواضع لا يبيع مجرد طربوش، بل يحافظ على ذاكرة حيّة تختصر تاريخ طرابلس وتراث لبنان بأسره. وبينما يعتقد كثيرون أن هذه الحرفة انتهت، يثبت هو أنّها ما زالت تنبض في قلب السوق العتيق، وأن آخر صانع للطربوش لم يرفع الراية بعد.
من هنا تأتي أهمية أن يلتفت المسؤولون والجهات المعنية لدعم الحرف التقليدية، لأنها ليست مجرد مصدر رزق، بل هوية وثقافة معرضة للانقراض.
الحفاظ على هذه المهن يعني حماية تاريخ المدن وتراثها، وضمان أن تبقى قصص الماضي حية بين الأجيال القادمة، وأن لا تختفي معها رموز وممارسات تشكل جزءاً من الروح اللبنانية..
موقع سفير الشمال الإلكتروني