ليست عودة المغترب اللبناني إلى وطنه مجرّد تحوّل في الموقع الجغرافي، بل هي رحلة داخل الذات ومواجهة صريحة بين الحنين والواقع، بين ما كان وما آل إليه الحال.
في البعد، يصير الوطن صورة مثالية، مشبعة بالذكريات واللهفة والانتماء. ولكن حين تطأ قدم المغترب أرض لبنان من جديد، غالبًا ما يصطدم بصورة أخرى.. وطن هش، يئن تحت وطأة الأزمات، لا يشبه الحلم الذي ظلّ ساكنًا في الذاكرة، فالعودة ليست كما الرحيل.
حين يغادر المغترب، يحمل في قلبه شوقًا متراكمًا لا يُقاس. ويزداد هذا الشوق مع كل سنة اغتراب، حتى يغدو الوطن حلماً ورديًا ينتظر تحقيقه. لحظة الهبوط في مطار بيروت لحظة مفعمة بالعاطفة، تختلط فيها الدموع بالضحك، والعناق بالحكايات المؤجلة، الطرقات، البحر، الجبال، لهجة الناس، ضجيج الشوارع.. كل شيء يبدو نابضًا بالحياة، كأن الزمن توقّف ليرحّب بالعائد بعد طول غياب.
لكنّ نشوة اللقاء لا تلبث أن تتراجع أمام الواقع القاسي، فخلف ابتسامات الأهل، وأحاديث الذكريات، تبرز الأسئلة الصعبة: كيف يعيش الناس هنا؟ إلى متى سيصمد هذا البلد؟ لماذا لا شيء يعمل كما يجب؟ تبدأ صور لبنان المثالية بالتشقق، تتضاءل الوعود، ويزداد شعور الخيبة، خاصة عند أول احتكاك فعلي بالبنية التحتية، أو عند أول معاملة إدارية، أو أول انقطاع للتيار الكهربائي، أو أول محاولة لك ضد الفوضى إذا أصريت على تطبيق القانون، عندها يصبح العائد في غربة داخل الوطن.
قد تكون أقسى أنواع الغربة تلك التي يشعر بها الإنسان داخل وطنه. فالمغترب الذي حلم طويلاً بالعودة، يجد نفسه فجأة غريبًا في بيئة يفترض أنها “بيته الأول”. يعاني من فجوة نفسية بين حنينه العاطفي إلى لبنان، وواقع لبنان الذي لا يعترف بطموحاته، ولا يوفر له الحد الأدنى من مقومات الاستقرار.
وكم يكون محبطًا أن يتحوّل حماس الوصول إلى ثقل عند المغادرة، فكثير من العائدين يقفون في المطار مرة أخرى، هذه المرة وهم يغادرون، لكن بقلوب منكسرة، ينظرون من نافذة الطائرة إلى وطن لا يزالون يحبونه، لكنهم عاجزون عن البقاء فيه، تكون الحقيبة نفسها، لكن المشاعر بداخلها مختلفة تمامًا.. كانت مليئة بالشوق والحنين عند الوصول، وأصبحت مليئة بالخذلان والحزن عند الرحيل .
ويستنتج عندها المغترب أن الحنين لا يكفي، فالرضا عند العودة ليس مسألة شعور لحظي، فلقاء الأهل، التجوال في أحياء الطفولة، ارتشاف القهوة اللبنانية، وتبادل النكات بلهجة محبّبة.. كل هذه لحظات ثمينة، لكنها لا تصنع وطناً مستداماً، فالوطن ليس فقط ذاكرة، بل هو مستقبل أيضاً.
المستقبل في لبنان اليوم ضبابي، غارق في أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية لا تنتهي.
إذن، هل عاد المغترب اللبناني راضيًا؟ أبدا، عاد بقلب مليء بالحب، لكن بعقل مثقل بالخيبة، عاد ليكتشف أن الوطن، كما يعرفه لم يعد هو نفسه، أو ربما، أن الوطن لم يتغير بقدر ما تكشّف على حقيقته المؤلمة.
وما أصعب أن يغادر المغترب وطنه مرتين: مرة أولى اضطر فيها للهجرة، ومرة ثانية بعد أن ظن أنه عاد إلى البيت.
وطن يرحّب بك بحرارة، ثم يودّعك ببرود.. تلك هي مرارة العودة في زمن الانهيار.
ـ الكاتبة: المحامية الأستاذة سوزان جلال السيد
ـ محامية باحثة..
The post بين ذاكرة الوطن وصدمة العودة.. هل وجد المغترب اللبناني وطنه؟!.. بقلم: سوزان السيد appeared first on .