يختبئ وراء ستار “القداسة” صراع سياسي واجتماعي يتجدد كل يوم في لبنان، حيث يتحول الدين من قيمة روحية عليا إلى أداة شعبية رخيصة، تُستخدم لفرض السياسات وتبرير الفساد. ففي هذا البلد الذي يزخر بالتنوع، أصبح الدين، وبكل أسف، وسيلة لتعزيز الانقسامات بدلاً من أن يكون جسرًا للتلاقي. فالأهمية التاريخية والتيولوجية للمؤسسات الدينية لا ينكرها احد، ولكننا أمام ظاهرة جديدة/قديمة تزداد مفاعيلها رغم التقدم “الحضاري” والتطور: استغلال الدين كوسيلة للتلاعب بالوعي الوطني العام. فبدلاً من أن يكون الدين مصدرًا للقيم والأخلاق، أصبح مجرد غطاء لتمرير الصفقات والممارسات غير القانونية، وأكثر ما يظهر ذلك في الخطابات السياسية التي تتبنى لغة طائفية، وفي الحشد الجماهيري الذي يلتف تحت راية الدين، وفي تبرير الفساد المالي والإداري عبر إضفاء طابع “القداسة” على الشخصيات والقادةالسياسيين وازلامهم. وتكمن المشكلة الحقيقية في أن هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل وُلد في تربة خصبة من الجهل في امور الدين والقانون، وغياب الوعي الجمعي للناس. فالشعب اللبناني، الذي عانى من حروب وصراعات لا نهاية لها، يبدو أنه استسلم منذ زمن لسلوكيات “عالم الطفولة”، بل وضعه القادة كمادة للتلاعب والتحليلوفق مبادئ “علم النفس الطفولي” بعد عملية تخدير جمعي للعقول. هذا العالم الذي يتم فيه تقبّل الخرافات واللامنطق والغرائز في غياب أي معرفة حقيقية. ففي مواجهة الأزمات الاقتصادية والسياسية الطاحنة، يلجأ اللبنانيون إلى القادة الذين يرفعون شعارات دينية، ويوهمون الناس أن الحل يكمن في “الالتفاف حول الطائفة” و”حماية المقدسات”، بينما يتم تدمير الوطن من الداخل لأجل تحقيق المصالح الضيقة والحفاظ على “كرسي الحكم”.
هذا التحول الخطير أدى إلى تلاشي الحدود بين الدين الحقيقي والدين الشعبي. ففي حين ان الدين الحقيقي يدعو إلى العدل والمحبة والمسؤولية، يُبرر الدين الشعبي الظلم والفساد ويُعزز الكراهية ويُعفي القادة من أي مسؤولية. وكلنا يعلم جهارًا أو سرًّا كيف تحولت المنابر السياسية إلى منابر “طائفية” لإطلاق سهام الاتهامات، وكيف أصبحت الليتورجيا والطقوس الدينية أيضًا جزءًا من الاستعراضات الحزبية، وكيف يتم استغلال العواطف الدينية لتحقيق مكاسب دنيوية. من هنا، يجب علينا أن نتوقف لحظةً للتفكير: هل نحن حقًا نتبع الدين الذي أُنزِل من السماء، أم نتبع “دينًا” صنعه الزعماء خصيصًا لخدمة مصالحهم؟ إن الحقيقة المرة هي أننا سمحنا لهذا “الدين الشعبي” بالتحكم في مصائرنا وضمائرنا، بعد أن نجح السياسيون في استغلال جهلنا وحاجتنا للانتماء البعيد عن الدولة، ووضعوا ستارًا سميكًا بيننا وبين معايير المواطنة الحقيقية خدمة لطموحاتهم في الحفاظ على السلطة وزيادة ثرواتهم غير المشروعة في ظل غياب الرقابة والمحاسبة. وعليه، لا بد لنا كشعب “متعلّم” من صحوة فكرية وروحية تعيد للدين اعتباره الصحيح، بعيدًا عن الاستغلال السياسي. وهذا يتطلب وعيًا جماعيًا وشجاعة في مساءلة القادة، وتفريقًا واضحًا بين القيم الروحية والخطابات السياسية. اذ لا يمكن للبنان أن ينهض ما دامت هويته محصورة في شعارات طائفية، وما دام الدين يُستخدم كسلاح ضد أبنائه.
إن الدين الحقيقي هو الذي يوحدنا ويذكّرنا بأننا جميعًا أبناء وطن واحد، وأننا مسؤولين عن بناء مستقبل أفضل، بعيدًا عن ظلال الماضي التي تسيطر علينا. في النهاية، يجب أن نعيد التفكير في علاقتنا بالسياسة الحقة ونفهم الدور الفاعل الذي ينبغي أن نلعبه في مجتمعنا، كقوة تجمعنا وتعزز قواعد العدالة والقانون، وان ننبذ شعبوية الدين السياسية كوسيلة لتعزيز الانقسام والفساد. بل علينا أن نحاسب “سياسيي الاحزاب” الذين يستخدمون الدين لأجل تحقيق مكاسب شخصية وأن ندعو الى تغيير حقيقي يقوم على المبادئ الإنسانية وتطبيق الدستور والقوانين التي تحفظ السلم والعدالة والعيش الكريم، لأجل بناء لبنان جديد، يليق بهويته وتاريخه العريق.
– الكاتبة: البروفسورة وديعة الأميوني
The post الفساد بين الدين الالهي والدين الشعبي في لبنان!.. بقلم: د. وديعة الأميوني appeared first on .