في كل المجتمعات الواعدة والواعية، يُعتبر التعاطي مع الأمور العامة مسؤولية جماعية تتطلب وعيًا مزدوجًا: عقلانيًا وإنسانيًا.
غير أن الكثيرين يخلطون بين العقلانية في التعاطي مع الشأن العام، والالتزام والدفاع عن الحقوق الإنسانية، فيظنّ البعض أن التمسك بالمبادئ والحقوق يتعارض مع الواقعية، أو أن العقلانية تفرض التخلي عن العواطف والمبادئ والقضايا المحقة.
والحقيقة أن هذين المسارين ليسا متناقضين بل متكاملين.
فالعقلانية: هي القدرة على التفكير المنطقي واتخاذ القرار بناءً على المعطيات والتحليل الواقعي، بما يضمن تحقيق المصلحة العامة بأقل الخسائر، والقدرة على التقدير والتروي والتمييز بين الممكن والمثالي.
في المقابل، الالتزام بالمبادئ والحقوق الإنسانية هو موقف يعكس القيم الانسانية والأساسية التي لا ينبغي التنازل عنها، مهما كانت الاعتبارات السياسية أو المصلحية.
لأن الدفاع عن المظلوم، ورفض الظلم والقمع، والمطالبة بالعدالة، كلها تعبر عن حس أخلاقي لا يمكن للعقلانية أن تبرر التخلي عنه.
والتوازن المطلوب، هو في الجمع بين الواقعية العقلانية التي تفهم التعقيدات، وبين الالتزام الأخلاقي الذي يصون كرامة الإنسان. فمن دون عقلانية، قد يتحول الدفاع عن الحقوق إلى ردات فعل غير مجدية، ومن دون التزام بالقيم، قد تنزلق العقلانية إلى مبررات تضيّع الحقوق وتتناغم مع كل ظلم وفسوق.
الصمت عن الظلم تحت ذريعة “العقلانية” ليس عقلًا، بل تواطؤٌ مغطى بالحكمة الزائفة. فالعقلانية لا تعني التخلي عن المبادئ، ولا السكوت عن الجرائم خوفًا من الخسارة أو من زعل قريب أو صديق أو حليف. بل العقل يُحتِّم أن تُصان كرامة الإنسان، وأن يُرَدَّ الظلم، وأن لا نكون شهود زور في مسرح التجاوزات.
كما أن الدفاع عن الحق ورفض الطغيان ليس تهورًا، بل شجاعة أخلاقية وعقلية. فالمطالبة بالكرامة والعدل والمساواة ليست دعوة للفوضى، بل هي صميم العقل والضمير الحي.
العقلانية الحقيقية توازن بين الموقف الواضح والمقاربة الحكيمة. نرفض العدوان لكن نعرف متى وكيف نرد. ندافع عن المظلوم لكن دون أن نتحول إلى ظلّام. نواجه الطغيان لكن بوعي لا بغضب العميان.
ختاماً:
في زمن تتشوه فيه المعاني، علينا أن نُعيد الاعتبار للفارق بين الحكمة والتخاذل، وبين الكرامة والتهور. فمن لا يقف في وجه الظلم – ولو بالكلمة – يكون شريكًا فيه، مهما برر صمته بالعقلانية والواقعية.
موقع سفير الشمال الإلكتروني