شرّعت حكومة نواف سلام – المبتورة ميثاقيتها الوطنية – لبنان أمام الاستباحة الشاملة والكاملة لسيادتها في أبعادها السياسية والعسكرية والأمنية وحتى الأخلاقية، وأحنت رأسها لأوامر المندوب الأمريكي السامي توم برّاك فأقرّت فرمانه الاستسلامي دون نقاش، وبذلك أسقطت القرار الدولي 1701وملحقاته بعدما ضربت به “إسرائيل” عرض الحائط دون أن تلتزم بتطبيق أي بند منه، بل أمعنت في انتهاكه في الوقت الذي كانت فيها الحكومة العرجاء تصادق على شروط السيّد الأمريكي بنزع سلاح المقاومة في مهلة زمنية أقصاها آخر العام 2025.
ولئن أراد العهد الوليد للدولة اللبنانية أن يدشّن إنجازاته الوطنية الكبرى بعقد إذعان مهين وتسليم ذليل للإملاءات الأمريكية، فإن مكمن الخطر يتبدّى في الاتجاه نحو إلحاق البلد بالهيمنة الإسرائيلية وتجريده من عناصر اقتداره وقوته وتحويله إلى حديقة خلفية لـ “إسرائيل” كما كان مقرّراً له أن يكون منذ مؤامرة سايكس – بيكو، إلا أن العامل الأخطر هو قوننة استباحة السيادة اللبنانية أرضاً وشعباً ومؤسسات دون أي وازع أو رادع بقرار رسمي، بما يشرعن للعدو الصهيوني توسيع مدى إجرامه وارتكاباته العدوانية بحق شعب لبنان وأرضه وقتما وأينما وكيفما يشاء، ولن يضطر العدو هذه المرّة أن يسوق أسبابه الواهية لتسويغ عدوانه، فلا يبعد أن يعلن أنه يطبّق بغاراته واغتيالاته قرار الحكومة اللبنانية!!
صفّق الأمريكي كما الإسرائيلي والفرنسي وسائر الدول التي كان لاستعمارها في لبنان نصيب للإنجاز غير المسبوق الذي حقّقه نواف سلام بوضع الدولة في مواجهة شريحة كبرى من شعبها قاومت وضحّت بأبنائها وأرزاقها وحرّرت الأرض وجلبت للبنان العزّة والسيادة والاستقلال الحقيقي، وبذلك حوّرت مسار المواجهة من أن تكون صراعاً في وجه محتلّ إرهابي قاتل إلى مواجهة داخلية قد تجرّ البلاد إلى أتون صراعات مذهبية وطائفية تأخذ شكل الحرب الأهلية، ولا يعود فيها لمصاديق الدولة أي أثر لأنها ستصبح في مواجهة الشعب، فتفقد بذلك عناصر منعتها واستقرارها، وهذا ما تريده أمريكا و”إسرائيل”.
ولعلّ خطوة الحكومة البتراء فاقت توقعات المصفّقين المنتشين بانتصارهم الوهمي المنصوص على ورقة قرار، خصوصاً أنها أقرّت وثيقة استسلام دون تحقيق أي إنجاز وطني طالما أنها غير مقترنة بأي إجراء مقابل يتوجب على “إسرائيل” القيام به، حتى أنها أخرجت العدو من دائرة الإدانة واصطفت إلى جانبه طرفاً في استهداف المقاومة واستهدافها بشكل مباشر، مع ما تمثّله هذه المقاومة من إرث تاريخي لا يمتاز به لبنان لوحده فحسب بل دول المنطقة كلّها التي عانت من جرائم الاحتلال الصهيوني، كما شكّلت مضبطة اتهام لكل حركات التحرّر في العالم التي تقف في مواجهة أمريكا و”إسرائيل” أو تلك التي ترفض الانصياع لإرادة القوى الاستعمارية الكبرى.
إن فعل المقاومة لا يحتاج إلى إذن أو قرار من حكومة أو نظام، فهو حق طبيعي كفلته شرائع السماء كما أقرّته القوانين الإنسانية التي منحت الشعوب الحرية في القيام والنهوض لتحرير أرض واسترجاع حقوق وتحقيق استقلال، ولبنان لم يشذّ عن هذه القاعدة منذ مئات السنين، أي قبل أن يكتسب اسمه التاريخي وتُرسمَ حدوده الجغرافية في أروقة النقاشات الاستعمارية، ولم يسبق أن “تشرّف” الشعب اللبناني بأن منحته الدولة قرار القتال والمواجهة في وجه المحتل، بل إن الدولة تشرّفت بأن استثمرت عطاءات الشعب المقاوم وبنت على نتائجها هياكلها الرسمية ومؤسساتها وجعلت له ساحة مركزية وتمثالاً وسط العاصمة أسمته “نصب الشهداء”.
إن الدولة هذه التي تحمل اسم “لبنان” ما كانت لتكون لولا تضحيات المقاومين الذين حاربوا قوى الاستعمار، وما كانت لتكتسب وجودها وهويتها واسمها لولا أن أخذت مجموعات من الوطنيين على عاتقها طرد المحتل، وخاضت من أجل ذلك معارك ضارية في فلسطين وسوريا ودوّنت في سجل الكرامة أسماء رجالات كبار رفضوا التسليم والاستسلام فقضوا شهداء وحفروا حضورهم في وجدان الوطن، واستمرت قافلة هؤلاء المقاومين بالمواجهة بعد زرع الكيان الصهيوني على أرض فلسطين لوحدهم على الرغم من انقلاب القيم الوطنية لدى بعض العرب، وباتوا يقاتلون على جبهتين، الأولى ضد العدو الصهيوني، والثانية ضد قوى التخاذل واتجاهات التطبيع.
قد تكون المقاومة في لبنان حالة شاذّة إذا ما تتبّعنا سياقات الحروب عبر التاريخ، فإن الثورات الشعبية التي عمّت أكثر من خمسين دولة أوروبية في القرن التاسع عشر، والتي سمّيت بـ”ربيع الشعوب”، قامت بهدف إزالة الهياكل الإقطاعية القديمة وخلق دول وطنية مستقلة، ولم تكن بدفع من الأنظمة الحاكمة بل ثارت على هذه الأنظمة لتحقيق العدالة الاجتماعية ورفضاً للظلم والتبعية والإقطاع، وكذلك فإن المقاومة الفرنسية التي قادها الجنرال شارل ديغول ضد الغزو الألماني لم تكن بقرار حكومي أو إيعاز بأمر عسكري بل كانت ناشئة عن شعور وطني دفع بالرجل إلى دعوة الفرنسيين إلى المقاومة ضد الاحتلال النازي ليؤسس بعد التحرير دولة فرنسا الحرّة.. أما لبنان فقد يكون الدولة الوحيدة في التاريخ التي تنقلب فيه الدولة على مقاومة شعبها ضد الاحتلال، وبدلاً من تكريم أبطال هذه المقاومة التي دحرت العدو وحافظت على الاستقرار طيلة 18 عاماً تبادر إلى تقليم أظافرها ونزع أنيابها تنفيذاً لأمر استعماري أمريكي.
إن قرار حكومة نواف سلام البتراء يعدّ بمثابة تسليم مجاني أمام العدو ودعوة إلى إلحاق لبنان بركب التسوية وقطار التطبيع مع “إسرائيل” بدون أي مكتسبات سياسية أو أمنية أو اقتصادية أو تحصيل أي عامل قوة يحمل في مضامينه وتطبيقاته ضماناً لتحقيق الأمن والاستقرار الداخلي، فضلاً عن الحفاظ على موقع لبنان في منظومة الدول المستقلّة والفاعلة، حيث إن تعرية البلاد من عناصر قوتها بنزع سلاح المقاومة سيفقدها العامل الرئيسي في صياغة جوهرها السيادي، وسوف يضع لبنان على هامش الحسابات الإقليمية والدولية في ظل انعدام التوازن في القوى.. فأي استقرار أو ازدهار ينشده لبنان في ظل وهم الوعود الأمريكية!؟
موقع سفير الشمال الإلكتروني