في خضمّ الجهود الإقليمية والدولية الرامية إلى التوصل لتهدئة مستدامة في قطاع غزة، تتّضح فجوة جوهرية بين الاتفاق السابق الذي توصّلت إليه الأطراف ثم تراجع عنه رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، وبين المقترح الراهن المطروح حاليًا على طاولة المفاوضات. هذه الفجوة لا تتعلق فقط بالتفاصيل الفنية، بل تعبّر عن تحوّل سياسي عميق ونوايا مبيّتة لإدامة العدوان وفرض وقائع ميدانية تقوّض فرص الحل الشامل.
إن مقارنة مضمون الاتفاقين تُظهر أن ما يجري ليس مجرد تعديل في البنود أو آلية التنفيذ، بل هو انقلاب على الإطار العام للاتفاق، وتتجسّد هذه الاختلافات في ثلاث نقاط محورية كالآتي:
أولاً: وقف القتال – شامل أم انتقائي؟
الاتفاق الأول نصّ على وقف شامل وكامل للأعمال العدائية من كلا الطرفين، بما في ذلك الهجمات “الدفاعية”، مع انسحاب واضح وغير مشروط لقوات الاحتلال من قطاع غزة. وقد مثّل ذلك خطوة نحو تهدئة حقيقية، دون لبس أو ثغرات قانونية.
أما المقترح الجديد، فيقتصر على وقف “العمليات الهجومية” فقط، ويمنح دولة الاحتلال الحق في تنفيذ ضربات تحت غطاء “الدفاع”، وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام تفسيرات فضفاضة تتيح استمرار العدوان بشكل ممنهج. أما الانسحاب، فقد أصبح مشروطًا وغامضًا، ومؤجلًا إلى مفاوضات لاحقة تشمل خرائط ومسارات غير محددة.
ثانياً: الضمانات وآليات التنفيذ
الاتفاق السابق تضمن ضمانات دولية فعلية، وربما إشرافًا من أطراف ثالثة محايدة، إلى جانب آليات واضحة للمتابعة والتنفيذ. كما لم يتضمن استهدافًا مباشرًا لقيادات المقاومة، ما منحه طابعًا سياسيًا متزنًا.
أما المقترح الحالي، فقد ربط تنفيذ بنوده الأساسية بمفاوضات مؤجلة لمدة 60 يومًا، تتناول قضايا شديدة الحساسية مثل نزع سلاح المقاومة ونفي قادتها إلى الخارج، وسط وعود فضفاضة من جهة ضامنة مثيرة للجدل، مثل دونالد ترامب، المعروف بتحيّزه الكامل لدولة الاحتلال وتقلب مواقفه.
ثالثاً: البُعد الإنساني
الاتفاق الأول تضمّن مؤشرات واضحة لتحسين الأوضاع الإنسانية، من خلال آليات أكثر عدالة وفعالية لإدخال وتوزيع المساعدات. في المقابل، يُبقي المقترح الراهن على نفس الآليات القائمة، التي ثبت فشلها في تخفيف حدة الأزمة، ما يُنذر باستمرار المعاناة رغم احتمالات وقف القتال.
الخلاصة: تهدئة مفرغة ومقايضة مستحيلة
يكشف المقترح الحالي عن رؤية مشوشة لوقف إطلاق النار، تفتقر إلى الجدية وتُفرغ مفهوم التهدئة من مضمونه، من خلال اشتراطات تعجيزية وضمانات واهية. فبينما مثّل الاتفاق السابق أرضية واقعية لوقف العدوان وبدء مسار سياسي ممكن، تُبقي الصيغة الحالية يد الاحتلال مفتوحة على التصعيد، مقابل مطالب تقترب من الاستسلام الكامل للمقاومة. وبذلك، لا يمكن اعتبار هذا المقترح خطوة نحو حل، بل هو وصفة لاستمرار النزيف تحت غطاء زائف من “السلام”.
The post إتفاقان.. وموقف واحد: كيف انقلب نتنياهو على وقف إطلاق النار؟.. بقلم: د. محمد أبو طربوش appeared first on .