وقع المحظور المتوقّع واندلعت الحرب بين “إسرائيل” وإيران.. وفي ظل التطورات المتسارعة في الميدان المشتعل لم يعد الحديث مجدياً عمّن يتحمّل مسؤولية المباشرة في بدء الحرب بل عمّا سوف تؤول إليه والبحث في احتمالات توقفّها عند حد معيّن والعودة إلى طاولة المفاوضات – نووية كانت أو سياسية – أو امتداد فتيل النار ليطال المنطقة كلها وتالياً العالم بأسره.
صرّح نتنياهو: “استبقنا مخططاً إيرانياً لغزو “إسرائيل”!!.. نخوض معركة وجودية وأعتقد أن كل مواطن في إسرائيل يفهم ذلك الآن..”، أما الوزير الأكثر حماسة لخيارات الحرب بتسلئيل سموتريتش فيقول: “نخوض حرباً لا مفر منها في مواجهة تهديد وجودي من إيران لضمان أمننا ووجودنا ومستقبلنا.. لو لم نتحرك الآن ضد إيران لكنّا نواجه تهديداً ثلاثياً بل رباعياً”.. في المقابل يؤكد القادة الإيرانيون أن “نتيجة حرب نتنياهو لن تكون أقل من إنهاء حكومته ونظامه السياسي”.
الثابت أن الطرفين يعلنان أن الحرب وجودية بطبيعتها وأهدافها – على الأقل للنظامين السياسيين الحاكمين في كل من إيران و”إسرائيل” – وهذا ليس أمراً جديداً فرضه لزام الموقف الراهن المتعلّق بالظرف الآني بل هو مسألة استراتيجية – اعتقادية لا متغيّرة كخطين متوازيين لا يلتقيان، وقاعدة حاكمة يتّخذها الطرفان التزاماً بنيوياً لا حياد عنه، ونهجاً استراتيجياً اعتمدته الحكومات المتعاقبة على طرفي الصراع، وعليه فإن البحث هنا يتجاوز المنطلقات والقواعد ليذهب إلى التطوّرات والنتائج.
أولاً: على الضفة الإسرائيلية قد يبدو أن رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو نجح في استدراج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى تبنّي خيار الضربة الجراحية لإزالة ما يسمّيه “التهديد النووي الذي تمثّله إيران” وتمهيد الطريق أمام عقد اتفاق إذعان إيراني مع واشنطن، ولذلك اختار توقيت العدوان قبل يومين من موعد الجلسة الأخيرة للمفاوضات يوم الأحد في العاصمة العمانية مسقط، وبدا ترامب مطمئناً للنتائج المتوخاة من خلال الترحيب بـ “العمل الممتاز” الذي أنجزه نتنياهو.
حققت “إسرائيل” ضربة السبق في قتل عدد كبير من قادة الجيش الإيراني والحرس الثوري في مفاجأة مباغتة تفاخر بها نتنياهو كاشفاً أنه نسّق الأمر في ذلك مع ترامب، ووصفها مسؤولون إسرائيليون بأنها تماثل هجوم البيجر على حزب الله واغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، فيما ذهب آخرون إلى مقارنتها بالهجوم الأوكراني على القواعد الجوية الروسية حيث تم تنفيذ الاستهداف من داخل أراضي روسي.
وفي هذا السياق يرى محلّلون عسكريون أمنيون في الضربات الثلاث خديعة أمريكية – إسرائيلية، ففي الأولى كان الاتجاه ذاهباً نحو وقف إطلاق النار في الحرب على لبنان وجاءت عملية الاغتيال الآثمة للسيد نصر الله، وفي الثانية كانت الأمور تنحو باتجاه عقد اتفاق لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا فنفذ الأوكرانيون بتخطيط من الموساد وتنسيق بريطاني – ألماني وإشراف أمريكي على ضرب الطائرات الاستراتيجية الروسية، أما في الثالثة فإن الإيرانيين كانوا يتجهزون لعقد جلسة المفاوضات الأخيرة في ظل ما يشبه التطمينات الأمريكية بلجم نتنياهو عن ضرب إيران وإيحاءات إسرائيلية بأنهم ينتظرون الضوء الأخضر من ترامب وإعلان فشل المفاوضات، فباغتت “إسرائيل” إيران وكان ما كان.
ثانياً: على الضفة الإيرانية استوعبت طهران الضربة بسرعة فائقة وغير مسبوقة من خلال التعيينات البديلة لكبار القادة العسكريين المستهدفين وامتصاص الضربات الجوية والصواريخ التي أطلقها عملاء “إسرائيل” من الداخل على مواقع ومنصات عسكرية واستراتيجية، واستعادت زمام المبادرة لتأخذ المواجهة مسارها الحربي الكلاسيكي في تبادل الضربات.
ويوضح المحللون أن الحرب الجارية غير متكافئة على مستوى الأدوات والأساليب، فإيران تمتلك التفوق في المجال الصاروخي فيما تمتلك “إسرائيل” التفوق في المجال الجوي، وكلاهما يمتازان بقدرة تدميرية عالية وإمكانات إصابة دقيقة للأهداف، ولكن نتيجة المواجهة أثقل بكثير على كيان العدو نظراً لمساحته الجغرافية الضيقة وتوزّع مواقعها العسكرية بدوائر محدّدة بعكس المساحة الكبيرة لإيران التي تتيح لها راحة أكبر في التحرّك وتوزيع منصاتها الصاروخية فوق الأرض وتحتها.
وعلى الرغم من استعداد الطرفين للحرب فإن إيران تمتلك عناصر قوة أكبر على مستوى الحافزية والقدرة على التحمّل بعكس “إسرائيل” التي تخوض حرباً متواصلة منذ أكثر من عشرين شهراً تستنزف قدرات جيشها وتنهك مجتمعها الذي بات اليوم عرضة للقصف الإيراني المباشر والمدمّر في قلب المدن والمستوطنات والمواقع العسكرية الحساسة والاستراتيجية على امتداد الجغرافيا الفلسطينية، فإلى أين المفر!؟
ثالثاً: في التقديرات، يرى المحللون أن العالم كله بات اليوم على صفيح ساخن، وما يسعّر الوضع خيارات نتنياهو الانتحارية واليائسة، فالرجل لا يملك أي خيارات أمامه سوى الحرب ثم الحرب ثم الحرب، ويعتمد في ذلك على الدعم الاوروبي “الاستعماري” والجموح الترامبي للسيطرة على العالم، ويتمثّل الاحتمال الانتحاري لنتنياهو في رفع مستوى ضرب المواقع الاستراتيجية الإيرانية، ولا سيّما مصافي وحقول النفط والغاز فضلاً عن تكثيف الضربات للمنشآت النووية أملاً في تحقيق جزء من هدفه الذرائعي المعلن في إنهاء المشروع النووي الإيراني، ما يستتبع رفعاً مقابلاً للرد الإيراني المتماثل بما يقود إلى تدحرج الامور باتجاه حرب إقليمية (نووية) سرعان ما تتوسّع لتتحوّل إلى حرب عالمية كبرى، وهذا احتمال غير بعيد وممكن، فنتنياهو اليوم يقامر بكل شيء ويرى أن لا شيء بعد لديه ليخسره.
ويلفت المحلّلون إلى أن إيران لم تستهدف بعد المواقع الاستراتيجية للعدو، وهذا يعني انها لم تتأثر بشكل كبير بالضربات الإسرائيلية التي تتخذ حتى الآن شكل المراوحة في أسلوب القصف وحجمه فيما إيران تعمل في الداخل لتصفية عناصر التخريب وتزيد مستوى الضربات كماً ونوعاً، إلا أن الأمور مرجحة للتصاعد مع اتساع دائرة الأهداف ومستواها بحسب مسار التطوّرات السياسية والدبلوماسية التي تنشط بموازاة الحرب.
ويضيف هؤلاء أن هناك ثلاثة عناصر قد تترك تأثيرا على المجريات لصالح إيران هي:
1. بقاء الولايات المتحدة دون تدخّل مباشر في عمليات القصف والاستهداف، مع العلم بأن “إسرائيل” طلبت رسمياً من الإدارة الأمريكية دعمها في الحرب، إلا أن ترامب لا يفكر في القيام بذلك في هذه المرحلة بحسب ما رشح عن مسؤول أمني أمريكي رفيع المستوى.
2. ازدياد الضغط الداخلي في الكيان على نتنياهو وحكومته نتيجة الدمار والرعب والصدمة من القصف الايراني الهائل، فضلاً عن ارتفاع الفاتورة الاقتصادية للحرب بسبب التعطّل الشامل للدورة الإنتاجية داخل الكيان.
3. نشوء مواقف دولية مؤيدة لإيران ومعادية لإسرائيل، على غرار الموقف الباكستاني المتقدّم الرسمي والشعبي، وتحرّك جبهات أخرى داعمة ولا سيما في العراق واليمن، مع إمكان بدء تحركات شعبية في دول عربية وإسلامية وغربية رافضة لاستمرار الحرب خوفاً من تصاعد وتيرتها وامتدادها في المنطقة والعالم، وهذا ما يثير خشية واشنطن من تداعيات غير محسوبة وتأثيرها على مشاريع ترامب الاقتصادية والمالية في منطقة الخليج تحديداً.
أما بشأن موقف كل من الصين وروسيا من الحرب فيوضح المحللون أنه على الرغم من أن موسكو وبكين ترتبطان بشراكات اقتصادية واستراتيجية مع إيران ومن غير مصلحتهما تخريب هذه الشراكة، ويتقاطعان معها في العداء لواشنطن، ولكن من المستبعد أن يتدخلا في الحرب خشية تورطهما في مواجهة عسكرية مباشرة مع أوروبا والولايات المتحدة، إلا أن تدحرج الحرب قد يشكّل فرصة لهما بحيث تنقض الصين على تايوان فيما تستكمل روسيا حربها الحاسمة على أوكرانيا، وعليه فإنهما تنتظران تطوّر الامور للبناء على النتائج واتخاذ القرار.
ويرجح المحلّلون أن تدفع واشنطن بالعديد من الأطراف الدولية بشكل مباشر أو عبر وساطة لمحاولة وقف الحرب الإسرائيلية – الإيرانية عند هذا الحد والدعوة إلى مفاوضات لا تقف عند حدود المشروع النووي الإيراني، فقد يرى ترامب الفرصة سانحة بعد أن يستنزف الطرفان قدراتهما العسكرية للتدخل بثقله الشامل لفرض إرادته على الأطراف في المنطقة كلّهم وجمعهم على طاولة واحدة بغية فرض مشروعه التطبيعي دفعة واحدة.. هذا ما قد يدور في خلد ترامب ولكن هل ستلق طموحاته صدىً في ساحة الحرب!؟ لا أحد يملك الجواب فلغة الميدان اليوم تطغى على أي لغة وإن غداً لناظره قريب.