في خطوة تعكس طموحًا على الورق أكثر منه واقعًا في التنفيذ، رُصد مبلغ150 مليون د.أ. لأجل دعم مشروع التحول الرقمي في الدولة اللبنانية، الذي يُفترض به أن يؤسس لإدارة حديثة وخدمات حكومية إلكترونية، وربما لبدايةاستعادة ثقة المواطن بدولته. إلا أن هذه المبادرة، التي طال انتظارها، وُلدت اليوم في بيئة سياسية وإدارية لا تزال تعاني من تضارب الصلاحيات وغياب الرؤية المركزية، وفقدان الثقة بين المؤسسات والمواطنين. فهل يستطيع لبنان أن يحقق نقلة رقمية حقيقية أم أن المشروع مرشّٓح لأن يتحول إلى رقم جديد فيسجل طويل من المشاريع المجمّدة أو الفاشلة؟
في الحقيقة انّ التحول الرقمي لا يقوم فقط على التمويل. صحيح أن حجم المبلغ المرصود يمكن أن يكون كافيًا لإطلاق برامج رقمية متطورة في بلد صغير مثل لبنان، لكنه يبقى غير ذي جدوى إذا لم يُرفق برؤية واضحة واطار مؤسسي مركزي وإرادة سياسية موحّدة. فالتجربة اللبنانية، وللأسف، تُظهر حتى اللحظة غياب هذه العناصر مجتمعة، حيث نجد ان وزارة التنمية الإدارية التي يفترض بها أن تقود هذا التحول، تجد نفسها أمام تنازع على الصلاحيات مع وزارات وهيئات أخرى، أبرزها وزارة المهجرين التي دخلت مؤخرًا على خط الذكاء الاصطناعي، في مشهد يعكس مدى التداخل والارتجال في تحديد أدوار المؤسسات. هذه الفوضى في الصلاحيات لا تُعيق التنفيذ فحسب، بل تمهّدالطريق أيضًا لهدر محتمل في المال العام، في بلد لا تزال الشفافية فيه منقوصة والمحاسبة غائبة.
والاهم من ذلك، أنّ التحول الرقمي الناجح، وفي أي تجربة دولية، لا يمكن أن يُبنى من دون مؤشرات أداء دقيقة، تُعرف باسم Key Performance Indicators (KPIs) ، على اعتبارها بمثابة خارطة طريق تُستخدم لتقييم التقدّم في كل خطوة: من عدد المعاملات التي أصبحت رقمية، إلى مدى استخدام المواطنين للمنصات، مرورًا بسرعة الإنترنت، وعدد المؤسسات العامةالتي تنشر بياناتها بشكل شفاف. فهل تعي الدولة اللبنانية لهذه المؤشرات وترتكز عليها لاجل مواكٓبة مستدامة وناجحة في تنفيذ هذا المشروع؟
ولكي نكون اكثر تفاؤلًا في ظل النوايا الحسنة للعهد الجديد في اعادة بناء مؤسسات الدولة ومحاربة الفساد وتطبيق الحوكمة الرشيدة من خلال التحول الرقمي، نعتبر انّ المسألة ليست مستحيلة رغم التخبّط الكبير في الاوضاع اللبنانية. وفي صيغة مقاربة، ننظر إلى دول قريبة لكي نستنتج الدروس. فالمملكة الاردنية الهاشمية مثلًا، رغم تحدياتها الاقتصادية الشبيهة بدولتنا، أطلقت بوابة “سند” التي جمعت مئات الخدمات الحكومية الإلكترونية، ونجحت في بناء نموذج تدريجي رغم تواضع الإمكانات. كذلك فعلت تونس، التي عانت من اضطرابات سياسية، وبنت منصّاتها الرقمية بدعم أوروبي وربطت مؤسساتها إلكترونيًا. حتى أرمينيا، وهي بلد صغير يرزح تحت أزمات سياسية واقتصادية، تمكّنت من التحول إلى مركز تكنولوجي ناشئ، بفضل إشراف مركزي واستثمار في التعليم الرقمي. ويبقى الجامع المشترك بين هذه التجارب ليس الوفرة المالية، بل التماسك المؤسساتي، والإرادة، واعتماد مؤشرات أداء شفافة تربط كل إنجاز بموعد زمني قابل للتقييم. هذه الدروس بعيدة عن دولتنا، والمسألة تتطلب قرارًا شجاعًا بنقل التحول الرقمي من ملعب التصريحات إلى ميدان التنفيذ الفعلي.
خلاصة القول، ان التحول الرقمي في لبنان قد لا يكون مستحيلاً، لكن نجاحه مشروط بتحقيق ثلاثة عناصر أساسية وفق مراحل متعددة: أولًا، توحيد المرجعية الرسمية تحت جهة مركزية مستقلة. ثانيًا، إشراك المواطن عبر منصات شفافة وسهلة الاستخدام. وثالثًا، نشر مؤشرات الأداء بانتظام، كي لا تتحوّل الرقمنة إلى مجرد واجهة إلكترونية لفساد مُرقمن. لانه، وفي غياب هذه الشروط، قد لاتختلف التجربة الرقمية عن سواها من التجارب اللبنانية المتعثّرة: عناوين برّاقة، وأرقام واعدة، ولكن من دون أثر ملموس وايجابي في حياة المواطنين!
الكاتبة: البروفسورة وديعة الاميوني
استاذة جامعية وباحثة في مجال التحول الرقمي
موقع سفير الشمال الإلكتروني