تقاذف اللاعبون في الانتخابات البلدية بالبيانات الانفعالية والعفوية أحيانا. والحال انه ينبغي التعمق بنظرة موضوعية علمية لتفسير ما حصل، ومن ناحيتنا نسعى إلى قراءة بنيوية متأنية تبين إيجابيات جديدة وتبني على استدراك مسبق لعدالة القوانين الانتخابية.
بالرغم من دقة الوضع، فاقت إيجابيات انتخابات/2025 كل التوقعات، وتركت لنا دروسا هامة قبل الانتخابات النيابية. وأفضل ما يمكن ذكره هو تمثيل الشباب، حيث أنه للمرة الأولى يتقدم أكثر من 6 شباب تحت عمر الثلاثين، ويفوز إثنين منهم، احدهما على لائحة “رؤية” والآخر تمكن من إحداث خرق مدوي ضمن لائحة لم يفز منها أحد.
ويعود السبب لحملات انتخابية مغايرة، غير نمطية لا داع للتوسع بها في هذا المقال، لكنها أكدت على اعتراف المجتمع بدور الشباب في عهد جديد. ومما لا شك فيه، انه لو كان للشباب حقوقهم السياسية (تخفيض سن الاقتراع والترشيح)، لكانوا نجحوا بأعداد أكبر.
أما حول ما يسمى ب”الأقليات”، مع “بشاعة هذا المصطلح”، فقد أثبتت الطائفة العلوية وجودها من خلال تزايد أعداد المقترعين النازحين حاليا من الساحل السوري والمجنسين. ويعود الفضل أيضا، في زمن غياب مرجعياتهم السياسية إلى المرجع الديني الذي حرص على مشاركة واسعة في عملية الإقتراع وعلى تمثيل معتبر للمرشحين مؤكدا على دور الطائفة الوطني.
هنا اقترنت العملية الانتخابية بتكتيكات أسفرت على غلبة التمثيل العلوي في المخترة، أمام تقاعس المشاركة السنية لاعتبارات مختلفة (انتظار المال الانتخابي وعدم رضى الناس وقناعتهم بالقدرة على التغيير).
عادة تتحد الأقليات من أجل حصد الأصوات، وهنا غابت هذه الممارسات وغاب معها التمثيل المسيحي. فلم يأتِ الناخبون قناعة منهم أنهم لن يغيروا بالنتيجة. ولو اتحدت “الأقليات” لكانت قادرة على كسب مقاعد مدعمة بأصوات السنة. هذا، ولا صحة بتاتا للقول أن أهل المدينة شطبوا الأقليات، وربما حصل ذلك بأعداد محدودة جدا، وينبغي إعداد الدراسات العلمية لمعرفة حجمها وتأثيرها. وهذه الأصوات هي نفسها أيضا التي يمكن أن تشطب النساء وكل دخيل على النسيج الطرابلسي. فعليا، انعكست هذه الخلافات ميدانيا، ولكن عبثا جهدت الأيادي المشبوهة على تأجيجها.
أعلنت طرابلس قرارها بوضوح: نحن أمام حقبة تاريخية جديدة، نتوق فيهاإلى بناء مقومات ثابتة لدولة عصرية، تعيدنا إلى الزمن الجميل، زمن تألقت فيه المدينة كمساحة للتنوع والانفتاح.
فيما يتعلق بالمرأة، فاقت المؤشرات الإيجابية بكثير عدم فوز النساء في مدينة عرفت منذ عهدين اكثر من ثلاث نساء في مجلسها البلدي (4 نساء في العام 2010، تدنت إلى واحدة في انتخابات )2016. اليوم ارتفع عدد المرشحات إلى (23/188) حصلن على معدلات مرتفعة جدا زاحمن فيها الرجال خاصة في الميناء (كادت أن تفوز إثنتان منهن). والحق يقال، أن كل لائحة ضمت من 4 إلى 7 نساء، حيث لم تعد المرأة ديكور فقط ضمن لائحة هنا أو هناك. ويعزي عدم الفوز إلى الكم الهائل من اللوائح (7لوائح)، وإلى العدد المرتفع من المرشحين الرجال من ذوي الخبرة، وإلى كون النساء غير معروفات في الكثير من الأحياء في المدينة، حيث يوجد رجال يعملون ويشاركون في الصلاة في جامع الحي، في زمن يتطلب فيه المجتمع من المرأة تميزا مضاعفا. أضف إلى ذلك ضعف الحملات الخلاقة لعدم توفر المال، وغياب البرامج والشعارات التي تتطلبها مدينة كطرابلس تحوي كل أشكال الإهمال والقضايا الاجتماعية المتعثرة والوضع الأمني الهش. والحقُ يقال أن النساء ألحقنَ باللوائح في آخر اسبوع قبل الانتخاب، وكان عليهن أن يتقيدنَ دون أي مشاركة مسبقة في إعداد الرؤية والبرنامج، فلا تطالبوا النساء بما لا تطالبوا به الرجال.
أما من حيث مضمون المعركة الانتخابية، فقد أتخذت أسوة ببيروت توجها واضحا: مع/ضد لائحة السلطة السياسية في المدينة والمبنية على المحاصصة الهجينة لمكونات النواب فيها. مما يبشر بإعادة فشل المجالس السابقة، تمَ ذلك بذريعة ضمان وصول الفئات كافة إلى المجلس البلدي.فانتصرت في الميناء لائحة السلطة كونها لاقت هنا إرادة شعبية لنوستالجيا البلدية الناجحة في زمن غابر، وذلك بشخص رئيس محصن ومعفف من ناحية، ولوفرة المال الانتخابي في حملتها. أما في طرابلس، فقد استاء المقترعون من التوافق الهجين مما دفع بالعديد عن الاحجام عن الاقتراع، أو مما لاقى لدى المقترعين الآخرين دافعا لاختيار معاكس للسلطة السياسية. فانصبت الأصوات لصالح اللائحة الأقوى (نسيج طرابلس)، الأمر الذي فجر كل أساليب الفساد الانتخابي، واحتكم الشعب الطرابلسي إلى الشارع بعد توثيق الفساد وأشكاله بالصور، وبعد عرضه أمام الإعلام وبعد التواصل مع وزير الداخلية مباشرة. هنا انفجر الوضع العام، طالب الناس باستبدال المحافظ الذي اعتبر رأس هذا الفساد، وتدارك وزير الداخلية الأمر، ورأى أن إعادة الفرز من جديد تضمن صحة النتائج في حين أصدرت “لادي” تقريرها القاضي بإعادة الانتخابات.
وحيث أن هذه الظاهرة لم يكن لها من سابقة، وتشكل إرباكا للدولة (تكاليف من جهة، وتدريب الجهاز المراقب…)، فقد أعيد الفرز مرارا وطال الإعلان عن النتائج ولم يحصل كالعادة أمام وسائل الإعلام، بل نشر على منصة الوزارة و تمكنت اللوائح المتبارزة من التعادل نوعا ما، بانتظار انتخابات الرئيس.
ما هي الدروس التي تعلمناها؟
– الآداء السياسي للحكومة ورئيسها ووزير داخليتها الذين سارعوا للملمة الوضع قد شكل نهجا لم نعتد عليه في السابق، انتصر الشعب في المدينة المتمردة على القيود ونادت بأعلى صوتها للعدالة الاجتماعية.
– تحجيم التجاوزات لذوي القرار ووضع المحافظ قيد “التحقيق” (وإن استعملت ألفاظ لبقة لذلك). وما نسب لعدم خبرة الجهاز الإداري لم يكن مقنعا، لماذا فقط في الشمال كان غير متدرب؟ سؤال نضعه بجعبة القارئ…
– نتمنى أن يعي المجتمع المدني دوره الفعلي، أن يكون شاهدا وناقدا ومحاسبا للمرشحين، ولا داعي بتاتا للوقوع في فخ من دعاهم لتشكيل المزيد من اللوائح لبعثرة الأصوات. فكما توافق الأخصام السياسيين، علينا ان نتوافق معا لإنجاح الأفضل منا.
– انتصرت العدالة والشعب وهذا أفضل ما تمكنا من تحقيقه في هذه الانتخابات.
– كان بالأحرى على الدولة أن تستدرك قبيل الانتخابات العوائق الناتجة عن عيوب النظام الانتخابي، لقد عجزنا بالنداء من أجل الدوائر الصغرى في الانتخابات البلدية لضمان التمثيل العادل. كما تمنينا أن نقر اللامركزية الإدارية الموسعة قبل الانتخابات، خاصة في مجالات الخدمات الأساسية للمواطنين، بحيث نخفف من مشاغل الدولة حيث فشلت، مما كان وفر على الطرفين الفضائح ومما كان قد أسس لانتخابات نيابية تكون استكمالا للخطوة التنموية.
موقع سفير الشمال الإلكتروني