تستعيد الانتخابات البلديّة والاختياريّة في لبنان حيويتها في مشهد تتكرر فيه الشعارات والاصطفافات التي لم تبرأ بعد من سطوة السياسة ومصالحها. وما هو أخطر من التكرار، غياب الرؤية الحديثة لبلديات جديدة تواكب التحولات الكبرى التي فرضها العصر الرقمي، وتستلهم نماذج “البلدية الذكيّة” التي باتت واقعًا في مدن كثيرة من العالم العربي والغربي.
غالبية اللوائح التي تشكلت وتتشكل في القرى والبلدات اللبنانية، لا زالت تخوض غمار المعركة الانتخابية وكأن الزمن لم يتحرك.
برامج انتخابية فضفاضة، خالية من المؤشرات والمشاريع المحددة، تتحدث عن تعبيد الطرق وتأهيل الصرف الصحي، من دون أي إشارة إلى إدارة او بنية حديثة تعزز الشفافية وتسهّل الخدمة العامة، خاصة أنّ إدارة البلديات اليوم أصبحت علمًا قائمًا بذاته، يتطلب رؤية استراتيجية وكوادر مدرّبة، وتحولًا رقميًا كاملاً في البُنى والخدمات!
ففي عالم يتحوّل بسرعة هائلة نحو الرقمنة، تبرز “البلدية الذكية” اليوم كنموذج مبتكِر ومبتكَر في الحكم المحلي، يعتمد على التكنولوجيا لتحسين جودة الحياة وتعزيز الكفاءة ومحاربة السرقات وتفعيل مشاركة المواطن. فهل يُعقل أن تبقى بلدياتنا أسيرة المعاملات الورقيّة في زمن الثورة التكنولوجيّة، بينما تعتمد معظم بلديات العالم العربي على الذكاء الاصطناعي والبيانات المفتوحة لتحديد أولويات الإنفاق وإدارة الخدمات؟ وهل من المنطقي أن تبقى القرى والبلدات محرومة من تطبيقات تتيح للمواطن تقديم شكوى أودفع الرسوم أو تتبّع المشاريع، بينما يستخدم أهلها الهواتف الذكية ويتعاملون يوميًا مع منصات التواصل والمواقع الالكترونية فقط لأجل الدردشة والتسلية والسباب والادمان الالكتروني؟
إن هذه الانتخابات يجب ألا تكون فقط محطة لتجديد المجالس المحليّة، بل فرصة لإعادة تشكيل الوعي البلدي وتجديد الخطاب الانتخابي لأجل طرح برامج تنموية تضع التكنولوجيا في خدمة التنمية.
وفي هذا السياق، ثمة توجيهات أساسية يجب أن تُطرح في النقاش العام، مثل إدخال التحول الرقمي في صلب البرنامج والعمل الانتخابي، عبر إطلاق مشاريع “الحكومة المحلية الذكيّة” مثلًا، وتبنّي مفهوم البلدية كمؤسسة خدماتية شفاة من خلال نشر البيانات والميزانيات والقرارات على منصات إلكترونية مفتوحة، وتفعيل دور الشباب والأكاديميين والتقنيين في مشاركة وضع رؤى مستقبلية للبلدية تستند إلى أدوات العصر، أو اطلاق شراكات بين البلديات والجامعات ومؤسسات التكنولوجيا لتطوير نُظم محلية في الطاقة النظيفة والنقل الذكي وإدارة النفايات، وغيره الكثير من البرامج التى تحاكي احتياجات الناس في ظل تطورات العصر التكنولوجي.
لبنان اليوم امام مفترق تاريخي يحاكي اعادة إنتاج سلطات محلية تقليدية في آدائها، أو خوض معركة إصلاح بلدي تضع الإنسان والرقمنة في صلب مشروعها. المطلوب ليس فقط مرشحين وفائزين، بل قادة رؤساء محلّيين يفهمون لغة البيانات بقدر ما يفهمون هموم الناس. فالبلدية الذكية لم تعد حلمًا أو خيارًا، بل ضرورة وحاجة تنموية ملحّة، لا تنتظر مزيدًا من التأجيل، اذا ما اردنا بناء وطن حديث ينمو ويلحق بقطار التطورات العالمي.