دخل قرار وقف إطلاق النار (وليس الحرب) شهره السادس – أعلنه رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو بتاريخ 27/11/2024 – ليضع العدوان الإسرائيلي على لبنان أوزاره الشاملة، وينتقل إلى طور آخر من القتل اليومي الانتقائي واستباحة السيادة اللبنانية سياسياً وعسكرياً وإعلامياً واحتلالاً مباشراً في البر والبحر والجو والهيمنة المباشرة على الفضاء الافتراضي والالكتروني والتكنولوجي دون رادع أو وازع..
في المقابل يوشك استحقاق انتخاب العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية وخطاب القسم أن ينهي شهره الرابع فيما تقترب الحكومة اللبنانية برئاسة نواف سلام وبيانها الوزاري من إتمام شهرها الثالث، ولا يزال عهد الدولة اللبنانية بإزالة الاحتلال وتحرير الأسرى وإعادة إعمار ما دمّره العدوان رهن القيود الأمريكية – الإسرائيلية.
قدر الجنوب بقراه وأهله في معايشة العدوان الصهيوني ليس جديداً منذ أن زرع الغرب جرثومة “إسرائيل”، ولطالما اقترنت معاناة الجنوبيين على حافة الأراضي المقدّسة بمحنة فلسطين وأهلها نظراً لامتداد الأرض وتماثل الهوية ووحدة القضية، ولطالما واجه الجنوبيون الحرمان والقهر نتيجة الاحتلال ومعابر الإذلال، ولكنهم كانوا دوماً يؤكدون ثباتهم على القرار وتشبثهم بالأرض لإيمانهم بالانتماء إلى لبنان الوطن على الرغم من حدوده المصطنعة التي رسمها توافق فرنسي – بريطاني في لحظة سقوط عربي شامل، ولكنها قد تكون المرّة الأولى التي يشعر فيها أهل الجنوب، والذي شاء القدر والتاريخ والجغرافيا أن يكون معظمهم من طائفة واحدة وانتماء سياسي واحد واتجاه عقائدي واحد، بأنهم غرباء في الوطن وأن قضاياهم أبعد ما تكون عن اهتمامات المسؤولين فيه.
عمّمت “إسرائيل” محنة الحرب على كل من يمتّ إلى الجنوب بصلة أرض أو دين أو مذهب أو قيد عائلي فطالت غاراته معظم لبنان ليوحي بأن صواريخه مبرمجة لاستهداف نوع محدّد من الناس، وسعى في ذلك إلى خلق نمط موازٍ من الحرب في الداخل يرتدي ثوب الفتنة والتفرقة بين شرائح المجتمع اللبناني، وإلى تكريس جدران العزل الطائفي والمذهبي بذريعة الخوف على الأمن واتقاء خطر الموت حرقاً أو تمزيقاً أو دفناً تحت الركام، وحينما أحبط الشعب اللبناني أهدافه القذرة بالالتفاف حول الوجدان الوطني والاحتضان الراقي للشريك في الإنسانية لجأ العدو إلى لعبة الضغط السياسي من الخارج وبعض الداخل، وأعلن الحرب على الجنوبيين باحتلال أرضهم وتقييد عودتهم إلى منازلهم وأرزاقهم، وكأنه المتحكّم بمصائر الناس وحقوقهم، غير عابئ بقرار أو سيادة ولا بقوات أو قرارات دولية ولا حتى بجيش لبناني وأجهزة رسمية لبنانية.
استطاعت “إسرائيل” إرساء صيغة ميدانية متشابكة، فبعدما أسقطت في حرب أيلول 2024 معادلة توازن الردع التي حافظت عليها المقاومة طيلة 18 عاماً نجحت برمي الكرة في الملعب اللبناني برعاية وإدارة أمريكية كاملة وشاملة، وكان من نتائجها أن اختلطت الأولويات لتتأرجح بين خيارين، الأول: تحقيق السيادة الوطنية وهي تتطلب تحرير الأرض من الاحتلال واستعادة الأسرى وإعادة الإعمار وبسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية وتحقيق الأمن الاجتماعي للمواطنين بعدالة دون تفرقة أو تمييز، والثاني: تثبيت الدولة وأركانها ويتمثّل بفرض الأمن في الداخل والالتزام بالمتطلّبات الدولية على صعيد إنجاز الإصلاحات المالية والإدارية والتنظيمية في الأجهزة الرسمية، فضلاً عن استكمال عملية نشر الجيش اللبناني والقوى الأمنية في القرى الجنوبية التي انسحب منها الاحتلال.
اتجهت الدولة اللبنانية إلى اعتماد الخيار الثاني كأولوية آخذة بالحسبان مجموعة من الوقائع، فقدّمت ما ترى أنها قادرة على تنفيذه، وتغاضت عما تراه مستعصياً على التنفيذ نتيجة الفيتوات الأمريكية والإسرائيلية، ولذلك نشط العهد الجديد في تظهير صورة الدولة المستقرّة من خلال استكمال التعيينات وملء الشواغر الإدارية وعلى رأسها حاكمية مصرف لبنان، ومكافحة الجرائم المالية والجنائية على أنواعها وتنظيم القضاء وبسط النظام العام وإجراء الانتخابات البلدية والاختيارية وغيرها من الملفات التي تستجيب لمطالب المجتمع الدولي، وهي جوانب مهمة وأساسية في سياق تأمين الاستقرار الداخلي بشكل عام، ومن شأنها أن تسهم في خلق نسق نشط لمؤسسات الدولة وممارسة حق المواطنة، ولكنها في الحقيقة أولويات تتماهى مع الواقع الممكن وليست أولويات الضرورة.
من قبيل الإنصاف عدم تحميل العهد الجديد أكثر مما يحتمل، فلبنان قديم العهد في التأثر بالقرار الخارجي، ولم يكن يوماً صاحب قرار سيادي خالص نظراً لارتباطه بملفات المنطقة والعالم وتداخل المصالح فيه، وزاد على ذلك وجود “إسرائيل” ككيان طارئ يجسّد النفوذ الغربي في المنطقة ويفرض بتفوقه النوعي قراراته المباشرة وغير المباشرة على المحيط، ولكن المنطق الوطني – السيادي يفرض تقديم الأوجب على الواجب، ومع التسليم بأهمية ما تقوم به الدولة في الملفات الداخلية إلا أن ذلك كلّه لا يحرّر أرضاً ولا يستعيد أسيراً ولا يعمّر ما تهدّم ولا يعيد شعباً إلى قراه ومنازله، ولا يسهم في بناء دولة قوية قادرة على تأمين الحماية لأبنائها ورد العدوان من أي جهة كانت.
قد يتبنّى البعض المقولة الأمريكية – الإسرائيلية بأن أولوية تحرير الأرض والأسرى وإعادة الإعمار مرتبطة بنزع سلاح المقاومة وهو العائق أمام استكمال الدولة اللبنانية عناصر سيادتها وقوتها، إلا أن هؤلاء يغفلون عن أن المقاومة تلتزم بكل بنود القرار 1701 وتعمل بأعلى مستوى من التنسيق مع أجهزة الدولة وفق ما صرّح الرئيس عون وقيادة الجيش اللبناني نفسيهما، ليس فقط في الجنوب بل في سائر الأراضي اللبنانية، ويعتبر حزب الله نفسه شريكاً في بناء الدولة ومعني بالحفاظ على مؤسساتها وتقويتها على الرغم من محاولات البعض عزله وإقصائه، فضلاً عن إسهامه المباشر في تسهيل انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل الحكومة وتفعيل مشاركته في الحكومة ومجلس النواب، ولا مانع لديه في حوار يقوده رئيس الجمهورية حول استراتيجية الأمن الوطني.
إن المحور الأساس الذي يجدر حسم الاتجاه فيه هو: إذا سلمت المقاومة سلاحها بدون ضمانات أكيدة من يضمن ردع “إسرائيل” عن توسيع دائرة عدوانها على لبنان واندفاعها في التوحش!؟ هل ستسمح واشنطن بتسليح الجيش اللبناني أو في الحد الأدنى باستفادته من ترسانة المقاومة ليصبح جيشاً قوياً وقادراً على مواجهة أي عدوان ولا سيما من “إسرائيل” الطامعة بلبنان وبثرواته المائية والنفطية!؟ من يضمن حماية الجنوبيين وغيرهم من اللبنانيين من الإرهاب الإسرائيلي المتسلّح بالغطاء الأمريكي وارتكابه المجازر الوحشية على غرار ما يفعله بالشعب الفلسطيني!؟ هذه الأسئلة وكثير غيرها تحتّم على الدولة تعديل أولوياتها أو إجراء توازن بين تحقيق السيادة الحقيقية بدفع الاحتلال والعدوان وبين الإصلاحات الداخلية، وإلا فإن العدو سيلجأ إلى إرساء واقع احتلالي وعدواني مستدام يدفع بلبنان في مرحلة ما إلى الخضوع والانضمام إلى حظيرة التطبيع وهو يفتقد أدنى مقوّمات القوة في القول والفعل.
موقع سفير الشمال الإلكتروني