في كل دورة انتخابية، تتجدّد الآمال بتحقيق تغيير حقيقي في لبنان عبر صناديق الاقتراع، لكن هذه الآمال غالبًا ما تُجهَض على أعتاب واقع انتخابي مشوَّه، تتحكّم فيه الرشوة السياسية والمال الانتخابي. فالانتخابات البلدية والاختيارية، على غرار النيابية، باتت مسرحًا مكشوفًا لشراء الذمم، وسط أزمة اقتصادية خانقة وفوضى سياسية عميقة جعلت من المواطن هدفًا سهلًا أمام إغراء المال.
اللافت أن الرشوة لم تعد ممارسة هامشية تُدار في الخفاء، بل تحوّلت إلى عرف اجتماعي مقبول ضمنيًا، بل ومُتوقَّع، في كثير من المناطق. تتخذ هذه الرشوة أشكالًا متعددة: مبالغ نقدية، خدمات اجتماعية، سداد فواتير، أو حتى توزيع مساعدات غذائية. ورغم محاولات هيئة الإشراف على الانتخابات وقوى الأمن ضبط هذا النزيف الأخلاقي، فإن الوسائل القانونية تبدو عاجزة عن كبح هذه الآفة التي باتت متجذّرة في بنية النظام الانتخابي اللبناني.
في معظم الدول، يُنظر إلى المال السياسي كأداة خطِرة تُقوّض نزاهة العملية الديمقراطية وتربط مصير المرشح بأصحاب النفوذ المالي. أما في لبنان، فالمعادلة مقلوبة: الخوف لا يأتي من المال الذي يموّل المرشح، بل من المال الذي يدفعه المرشح نفسه، في محاولة مستميتة لضمان الفوز بأي ثمن. وهنا، تتحوّل الانتخابات من استحقاق ديمقراطي إلى مزاد علني، تُباع فيه الأصوات وتُشترى الضمائر.
تتزايد ظاهرة الرشوة مع تفاقم الأزمات المعيشية، ما يجعل المواطن في موقع هشّ، يتعامل مع صوته كوسيلة للبقاء لا كموقف سياسي. ويبدو أن هذه الديناميكية لم تعد محصورة بعشية الانتخابات، بل تبدأ قبل أيام، عبر شبكات منظّمة من الوسطاء، يحملون لوائح بأسماء ناخبين معروفين بقبولهم الرشى، ويزورونهم في منازلهم بعروض مالية تتفاوت حسب أهمية الصوت وموقعه.
ومن وسائل الضغط التي يعتمدها بعض المرشحين: حجز الهويات للتأكّد من تنفيذ الاتفاق، أو مراقبة عدد الأوراق التي تحمل اسمًا محددًا ضمن العائلة، بما يكشف مستوى “الالتزام”. أما في الساعات الأخيرة من يوم الاقتراع، فترتفع “بورصة الأصوات”، ويتضاعف السعر، وتشتد المنافسة بين “تجّار الأصوات”، في مشهد يُفرغ الانتخابات من مضمونها ويكرّس المال كقوة حاسمة في تقرير النتائج.
إن ما يجري لا يُعتبر فقط خللًا في سلوك الناخب أو تجاوزًا من المرشحين، بل يعكس فشلًا عميقًا في بناء دولة القانون والمؤسسات. فالرشوة الانتخابية ليست عرضًا طارئًا، بل هي نتيجة بنية سياسية هجينة، تُشجّع الزبائنية، وتُهمّش مفاهيم المواطنة والمحاسبة.
في النهاية، ما دام المال هو من ينتخب، فإن الديمقراطية في لبنان ستبقى شكلية، والإنماء سيظلّ رهينة المصالح الشخصية، لا نتيجةً لخيار حر ومسؤول.