لم تأت فكرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بترحيل الفلسطينيين من غزة وتحويلها إلى موناكو الشرق الأوسط من فراغ، بل هي مبنية على مجموعة ثوابت غربية وأميركية تضرب عميقاً في الشعوب الغربية عامة. هي في وعي الغربيين والأميركيين، الذين نقول عنهم المواطن العادي، أو بحسب التعبير الأميركي "انسان كل يوم".
ربما التحدث عن غربيين بصفة عامة يحمل خطأً معرفياً، ولكنه تعميم مفيد لفهم موقعنا في عيون الآخر.اليمين واليسارما فعله ترامب هو مخاطبة شعبوية لمفاهيم وأفكار مسبقة عند جمهوره، كما عند جمهور اليسار الغربي. وهو، أي ترامب، في العادة أكثر من أجاد مخاطبة هذه الأفكار التي لا تزال تدفع بيمين اليمين التقليدي، واليمين المتطرف إلى الواجهة والسلطة مع كل انتخابات تجري غرباً، سواء في أميركا أو في القارة الأوروبية. هكذا يقدم نظرة سطحية لقضية من أعقد القضايا في التاريخ الحديث: "لنخرج سكان غزة، فنتوقف عن قتلهم، ونحول الأرض إلى منتجع سياحي أميركي مع شراكة من بعض دول المنطقة".
ثمة مقولة باتت تنتشر بين اليساريين الغربيين، ألا وهي أنه لا يمكن الاستهانة بجهل (أو غباء) الناخب الأميركي. هذه المقولة يمكن أيضاً تحويلها لتطال الناخب اليساري الغربي، الذي صدق لأعوام طويلة بأن الدفاع عن ديكتاتوريات العالم الثالث، كأمثال بشار الأسد، أو حركات يائسة كحماس، هو ممر لإعطاء الشعوب المتخلفة عن الركب حقها في تقرير مصيرها ومقارعة الامبريالية الغربية. وبين سطحية وجهل ناخبي اليمين وناخبي اليسار يتم سحق شعوب وأمم، وتتحول القضايا الكبرى كتوزيع الثروة والجوع العالمي ونهب الموارد وطمع الرأسمال الذي يدمر بيئة الكوكب، إلى قضايا جزئية كإيجاد حل للغزاويين على أراضي مصر والأردن والسعودية، أو إيجاد حل للمتحولين جنسياً في استخدام دورات المياه العامة، هل يجب أن يستخدموا دورات الرجال أم النساء أم تبنى لهم دورات مياه خاصة.
الجدل حول دروات مياه المتحولين جنسياً أسقط حكومات يسارية، مثل حكومة الحزب الوطني الأسكتلندي، التي غرقت في الجزئيات وتخلت عن شعاراتها حول الاستقلال ودعم الفقراء والانتماء إلى أوروبا. وبالمقابل ينجح اليمين المتطرف في استثارة عواطف جمهوره ويلهب مشاعره بأفكار مثل "إيجاد حل للغزاويين"، وتأمين "سلامة إسرائيل" و"حماية الأقليات وخصوصاً اليهود".
يبرر أكاديميون من الطرفين وجهات النظر السياسية، سواء أكانت تسطيحاً للقضايا المستعصية، أو أن يردد العرب مقولة "ازدواجية المعايير" كأنها العار الذي يصم الغرب وسياسته، بينما في الواقع المعيار واحد غرباً: اللاجئ الآتي من خلفية بيضاء مرحب به، الآخر العالم ثالثي مع حكوماته ودوله هو من البشر الأقل حظاً في الحياة والثروة والمكانة والتأثير.عرب وصحاريتقزيم القضية الفلسطينية إلى مشكلة غزاويين يعانون من بطش حماس من ناحية، و"تضطر إسرائيل إلى مهاجمتهم آسفة كل حين"، هو من صلب رؤية أغلب الغربيين للعالم ولمنطقة الشرق الأوسط.
"لا يوجد شيء اسمه فلسطين وفلسطينيون". يمكنك أن تسمع هذه العبارة حين يصدقك بعض معارفك الأوروبيين القول، "هناك فقط عرب، ولديهم الكثير من الأراضي، يمكنهم أن يستوعبوا سكان غزة عليها".
هذه هي، ببساطة شديدة، الرؤية أو الفهم للمنطقة الذي يستند ترامب وأترابه عليها، للقول إن هؤلاء مجرد بدو رحل يعيشون في صحاري، ونحن يمكننا تحويلها إلى جنة سياحية. هذه المروية تأتي من مروية إسرائيلية تقول إن المهاجرين الإسرائيليين الأوائل وصلوا إلى أراض خالية وصحراوية، وإنهم بمثابرتهم حولوها إلى أراض زراعية وجنة صغيرة وسط عالم عربي قاحل!
ولم يجد المهاجرون الأوائل شعباً في فلسطين، بل مجموعات من العرب صادف حينها وجودهم على هذه الأرض. وهو ما تمثله تماماً الصورة التي نشرها الناشطون المؤيدون للقضية الفلسطينية على مواقع التواصل الاجتماعي، وباتت تشكل رمزاً للتضامن مع غزة، صورة الفلسطيني الراقص إلى جانب الهندي الأحمر الراقص هو أيضا. ما تعبر عنه الصورة من تماثل بين الفلسطيني والهندي الأحمر، الذي لم يكن له حضارة ولا أرض محددة أو دولة، بل مجرد قبيلة ترتحل من مكان إلى آخر إلى أن جاء الرجل الأبيض وأرسى حضارته في القارة الأميركية.
الرؤية نفسها يحملها الغربيون تجاهنا، نحن بالنسبة لهم عرب، وكما نُقل عن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، فالعرب (في المقارنة مع الفرس) لا يملكون حضارة أو أخلاقاً. كذلك يرانا إجمالاً الغربيون، قوماً من البدو، نشبه إلى حد بعيد ما نقلته عنا أفلام كـ"لورنس العرب"، ولا نزال بعد مئة عام من بناء الدول العربية واستقلالها مجرد بدو رحل نعيش في الصحاري، ولا شيء يمنع من نقل مليوني غزاوي من أرضهم إلى الأراضي السعودية. فجميعنا عرب بدو رحل، لا خصائص مختلفة لشعوبنا وكياناتنا."يمكنني ذلك"تنطلق مواقف ترامب إجمالاً من خلفية السيطرة المطلقة للولايات المتحدة وبعض حلفائها على مفاصل السياسة الدولية، بما يخدم بالكامل البلاد وأمنها الاستراتيجي مع عدم مراعاة التوازنات للدول الأصغر والأضعف، وإلغاء دور القوة الناعمة والديبلوماسية من الحسابات السياسية والمواقف الرئيسية. فلا حاجة لمؤسسات كـ"يو أس أيد"، ولا لتقديم مساعدات لأغلب دول العالم للحفاظ على الاستقرار السياسي، ولا دعم جيوش وحكومات أو توزيع مساعدات على المناطق المنكوبة، بل الحاجة هي لتنفيذ السياسات التي تصب في مصلحة الولايات المتحدة مباشرة وإلا "ستفتح أبواب الجحيم".
وطالما يمكن للولايات المتحدة بقيادة ترامب القيام بفتح أبواب الجحيم، فهي ستفعل من دون كثير تردد.
هذه هي "السياسة الحقيقية" لترامب مقابل الديبلوماسية السياسية للأحزاب التقليدية الأميركية السابقة. ينعطف عليها معتقدات يحملها تيار "الصهيونية المسيحية" الذي يحتمي تحت جناح ترامب ويضخ له الأفكار الصالحة للاستهلاك الشعبي.
إضافة إلى هذه التيارات السياسية والميثولوجية التي باتت ركيزة في السياسة الأميركية والدعاية السياسية لترامب، ينفتح أفق نقاش آخر حول ما استثمر به العرب تريليونات الدولارات في الولايات المتحدة والغرب عبر السنين، ومدى جدوى هذه الاستثمارات التي لم تتراكم لا في قوة ناعمة، ولا في بث صورة حضارة المنطقة العربية ولا في المشاركة السوقية المنتجة، بل بقيت على الهامش، بغض النظر عما تخبرنا به وسائل الاعلام الناطقة بلغة الضاد.
أفكار ترامب عن تحويل غزة إلى منتجعات سياحية ستعني مخالفة كل القوانين الدولية المتعلقة بالتطهير العرقي، ولكن من سيتمكن من مواجهة هذه الموجة التي يركبها ترامب وشريكه إيلون ماسك وتوجهها خوادم الذكاء الاصطناعي لمحو بلادنا الجميلة والمظلومة؟