طارق متري: باني الجسور فوق متاريس السياسة ودهاليزها
2025-02-07 13:55:54
على الأغلب، لم يتوقع طارق متري، وكثر من عارفيه، أن يكون يوماً محط تشكيك واستهداف "اخلاقي" قبل أن يكون سياسياً. فالرجل الذي طرح اسمه كنائب لرئيس حكومة نواف سلام، من قلة دخلت الشأن العام وحافظت على بديهيات مفترضة في السياسيين. خلوق، لم يلطخه فساد ولا طائفية، يعكس في سلوكه وأدبياته صفات المثقف ورجل الحوار والانفتاح.
فمن هو طارق متري؟ وكيف كتب سيرته ومسيرته بـ"سطور مستقيمة لأحرف متعرجة"، وهو عنوان أحد كتبه.طرابلس: الدهشة الأولى لم ينظر طارق متري للحياة يوماً من منظار أحادي ضيق. باكراً جداً اكتشف تنوع ورحابة آفاقه. لذا، كان دائماً مهجوساً بالأسئلة، ساعياً إلى أجوبة تعمّق البحث والمعرفة. هو ابن تجربته التي جعلته مشدوداً إلى اختبارات متنوعة.
وحيد أبويه، أُغرق بالعاطفة المشوبة دائماً بالقلق. تلك العاطفة التي تساهم في تكوين شخصية مرهفة الحس وشديدة التعاطف والتأثر. حمل بصمات تربيته إلى اليوم: شديد التهذيب واللياقة، وجريء بالحق على خفر. عرف الوحدة فعالجها بالقراءة، وهي من قلة "المسلمات" التي لم يعد النظر بها.
ولد عام 1950 في طرابلس، المدينة التي طبعت حياته. فيها اختبر "عوالم" متعددة أثّرت في شخصيته وأثرتها. عاش في طرابلس الجديدة وبقي عمراً مشدوداً إلى الجزء القديم منها.
دخل مدرسة الأخوة المسيحيين، وهي إرسالية كاثوليكية. فكانت نافذة له على الثقافة الفرنسية واتقان اللغات، لكنها في الوقت نفسه زادته تعلقا بالثقافة العربية. هو الأرثوذكسي المشرقي الذي انتمى إلى حركة الشبيبة الأرثوذكسية، وشغله الاهتمام بمعرفة الآخر وطريقة تفكيره.
في تلك الفترة كانت طرابلس تضج بالقضايا العربية. مفردات العروبة والناصرية والمقاومة الفلسطينية والثورة.. متداولة في الشوارع والمنازل والمقاهي. وكان طارق، الفتى المراهق، يكبر وسط تلك الموجة التي اجتاحته. لم يدخل في حزب، لكنه تفاعل بشكل كبير مع حركة التحرر العربي وسار في تظاهرات عديدة. وكان أكثر ما يجذبه غياب الطائفية عن المدينة وتظاهراتها. السمة الغالبة على كل طرابلس. وعلى عكس رفاق كثر له من المدرسة والبيت، كان منجذباً إلى طرابلس القديمة. تعرف على أناس يختلفون عنه وعن محيطه الضيق. ارتاد مقهى شعبيا اسمه مقهى التل العليا، أو "الفوقانية" بلغة أهل البلدة. هناك وطّد معرفته بكل التنوع الذي كان سائداً في المدينة. ومن خلال نشاطات الشبيبة الأرثوذكسية تعرف إلى الميناء وتحول حبه للبحر عشقاً للمدى المفتوح على كل العوالم.الجامعة الأميركية: محطة مفصليةكان تلميذاً ناجحاً في العلوم، فتسجل في الجامعة الأميركية ليدرس الكيمياء. لكنه، وهو القارئ النهم للفلسفة والتاريخ والأدب لم يصمد أكثر من سنة في اختصاصه العلمي، وتحول إلى دراسة الفلسفة. وكانت الجامعة الأميركية المحطة الثانية التي أثرت فيه وأثرته. هناك اكتشف النظام التعليمي الليبرالي والمجال الرحب للحرية وتنوع حقول المعرفة والعلاقات المختلفة بين الأساتذة والطلاب. لقد كانت الجامعة تضم تلامذة وأساتذة من كل العالم، فازدادت صداقاته تنوعاً.
انتسب إلى النادي الثقافي العربي في أوائل السبعينات، وكان مناصراً، وإلى اليوم، للقضية الفلسطينية. شارك بتأسيس الندوة العالمية للمسيحيين من أجل فلسطين. وكان شديد الاهتمام بمقارعة الصهيونية وصراع الأفكار مع أصدقاء اسرائيل. راح يبحث عن كيفية إقناع أناس مسيحيين أو علمانيين يناصرون إسرائيل بعكس قناعاتهم. انشغل في إيجاد الحجج الأخلاقية والتاريخية وحتى اللاهوتية. فوسط اهتماماته السياسية لم يكن اللاهوت بعيداً عنه. تحمس للاهوت التحرير. أعجب بالمطران جورج خضر والمطران غريغوار حداد. وبقي دائماً على إيمانه الأرثوذكسي العميق.
شغلت القضية الفلسطينية قسما كبيراً من حياته. وهو لا يزال إلى اليوم عضواً في مجلس الأمناء في مؤسسة الدراسات الفلسطينية. هو "اهتمام أخلاقي ومعتقدي قوي بغض النظر عن السياسة الفلسطينية بتفاصيلها اليومية" .
هذا الإيمان بالقضية ولأسباب أخرى جعله يختار الإقامة في رأس بيروت قبل الحرب اللبنانية وفي أثنائها. كان ممن يعتبرون أن "هناك شرقية وغربية ورأس بيروت". المنطقة التي بقيت لفترة تختصر التنوع اللبناني والانفتاح وتضج بالحيوية الثقافية والفكرية. وكان يطيب لمتري أن يسميها "جمهورية رأس بيروت".
أثناء تحضيره رسالة الدكتوراه في باريس عمل في منظمة غير حكومية تدعى "الفيدرالية العالمية لحركات الطلاب المسيحيين". درّس في معهد الحركة الاجتماعية لتأهيل عاملين اجتماعيين. وساهم في إطلاق برنامج محو الأمية هادفاً إلى أكثر من التعليم، إلى "إعطاء الناس أدوات معرفية لمعرفة العالم من حولهم، وإلى مفاتيح لفهم الواقع والكلمات".بناة الجسور"مسيحي وطني" يقيم في المنطقة الغربية، وفق توصيفات ذلك الزمن، ويعبر إلى "المنطقة الشرقية" باستمرار. كان يومها قريباً من اليسار ولكنه كان أيضاً مواظباً على حضور قداس الأحد. كان الشك به، كما بأمثاله، يتم ضمناً من الفريقين المتحاربين. ففي مقابلة معه في جريدة السفير في 19-12-2006، يقول عن تلك الفترة "أنا بالنسبة إلى البعض في الغربية مسيحي. وفي الشرقية علامات استفهام كثيرة تحوم حولي. أما عند المعابر، فنظرات التخوين تلاحقني من الطرفين". لا يندم إلا "ربما على ما جعلت عائلتي تعيشه من قلق دائم (فهو خطف مرتين). فزوجتي إليان قماطي التي تعرفت إليها في الحركة الاجتماعية كانت تضطر إلى التنقل مع ولدينا دالية وزياد، بين منزل أهلها في الأشرفية ومنزلنا في رأس بيروت، خصوصاً عندما أكون مسافراً، وهذا كان يحصل كثيراً. لكن ما يفرحني أننا كنا، ضمناً، بناة الجسور ليس في السياسة بل في العلاقات الإنسانية. فالعابرون حفظوا الرأسمال الحقيقي للعلاقات الإنسانية بين اللبنانيين".عن الدامور ومصابهافي تلك الفترة المأساوية من تاريخ لبنان ارتُكبت مجازر كثيرة، لعل مجزرة الدامور من أفظعها. يومها كان متري، مع سمير فرنجية وروجيه عساف وفايز قزي وآخرين، قد أسسوا تجمعاً مسيحياً هدفه حماية من بقي من المسيحيين في بيروت الغربية. وبعد معرفتهم بمجزرة الدامور توجه الأربعة إلى منطقة الجيّة في محاولة إنقاذ من يمكن إنقاذهم ولتسخير علاقاتهم للتواصل مع المجموعات الفلسطينية واليسارية للجم سلوكها. كان حزنهم يومها يوازي خيبتهم. والأكيد أن ما يتم تناقله اليوم عن لسان متري حول تلك المجزرة افتراء وكذب. فلا هو ولا أي من رفاقه قالوا كلاماً مشابهاً.
يوم وضعت الحرب أوزارها عام 1991 سافر متري مع عائلته إلى سويسرا قابلاً عرض عمل من مجلس الكنائس العالمي، مسؤولاً عن الحوار المسيحي- الإسلامي. انصرف إلى العمل في المؤسسات الكنسية الدولية. تعمق في الحوار المسكوني. درّس في عدد كبير من جامعات أوروبا، ولكنه بقي على ارتباط وثيق بلبنان. يزوره كل ثلاثة أشهر. يُدرّس في جامعة البلمند ويعطي محاضرات في الجامعة اليسوعية .
وعلى امتداد سنوات كان يتنقل من بلد إلى آخر. يخلق الصداقات حيث يكون. يسافر في السنة نحو عشرين إلى خمس وعشرين مرة. يبشر على طريقته بالحوار. قام بمساع حثيثة في السودان والبوسنة ونيجيريا، مساهماً في احتواء التوتر والحفاظ على السلم الأهلي في تلك الدول.عيّن ممثلاً خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا منذ العام 2012 حتى 2014. ومع ذلك وجد وقتا ليكتب ويصدر كتباً.متري السياسيفي المرة الأولى التي عيّن فيها وزيراً، اتصل به الرئيس نجيب ميقاتي ليبلغه بذلك، لأنه كان يبحث عن وزراء لن يترشحوا إلى الانتخابات النيابية. لاحقاً عيّن في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة. وبقي حريصاً على التأكيد "أنا مستقل في السياسة... لم يطلب أحد مني حرية رأيي وقراري مقابل تسميتي وزيراً... أنا لست من الأقلية المعطلة بل من الأكثرية الميّسرة".بين 2005 و2011 عين في أربع حكومات لبنانية متعاقبة، وزيراً للبيئة والتنمية الإدارية والثقافة والإعلام، كما تولى وزارة الخارجية بالوكالة.يلتقي متري بعشرات الشخصيات يومياً، ومن بينهم ديبلوماسيون، يرتاحون في الحديث إليه ليس فقط لإجادته اللغات، إنما لعمق معرفته بالبلد وأحواله، ولصراحته في الكلام.ما يقوله في الجلسات المغلقة يقوله لكل سائل علناً. هي قناعاته التي، بداهة، تتطور، وآراؤه التي تتأثر بتنوع التجارب والمتغيرات.
المدن