لا يعتبر الحديث عن سيطرة المخابرات المصرية على قطاع الدراما التلفزيونية في "هوليوود الشرق"، جديداً، بل هو موضوع متكرر يطفو على السطح في رمضان من كل عام، بالتوازي مع التضييق الكبير على الحريات في عهد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي.
وأشارت مجلة "إيكونوميست" البريطانية أن قطاع الترفيه المصري تغير كثيراً في ظل الحكم العسكري الحالي، حيث باتت المسلسلات والأفلام تركز على بطولة الجنود المصريين، وهو ما كان واضحاً على سبيل المثال في مسلسل "الاختيار" الذي كان من بين الأعمال الدرامية الأكثر متابعة في رمضان الماضي.وتناول المسلسل المذكور قضية الإرهاب ومكافحة الدولة له، وأنتجته شركة تابعة للمخابرات المصرية. وركز العمل على قضية هشام عشماوي، وهو ضابط سابق تحول إلى جهادي، وكان من أكثر المطلوبين في مصر. وبعدما ألقي القبض عليه وشُنق في آذار/مارس 2020 اختفى عن الرأي العام، لكنه عاد من جديد بعد شهرين وشاهد ملايين المصريين إعدامه، من خلال ممثل لعب دوره في المسلسل. ومن أجل الترويج للحلقات، قامت المخابرات بتسريب أشرطة فيديو عن إعدام عشماوي الحقيقي.والحال أن المسلسلات والأفلام المصرية كانت شديدة الرواج في العالم العربي، ففي القرن العشرين كانت الأفلام من أكبر صادرات البلد. وتعلّم العرب من الدول المختلفة، اللهجة المصرية المميزة من خلال تلك الدراما، ومنحت صناعة التلفزيون والأفلام، القاهرة، تأثيراً ثقافياً ناعماً تحول إلى أداة دعائية لحكامها، ويمكن ملاحظة ذلك في الأفلام التي بدأت تنتشر منذ ثلاثينيات القرن العشرين، في صورة أشرطة إخبارية مصورة للملك فؤاد وتعرض قبل عرض الأفلام السينمائية الروائية.ولم يختلف الأمر بعد إطاحة المَلَكية على يد جمال عبد الناصر، الذي عمل جاهداً على أن تصور السينما الحقبة السياسية السابقة له بالفاسدة والشريرة. ورغم ذلك فإن السيسي تحديداً تجاوز أسلافة وتحول إلى مهووس بالسيطرة على الترفيه بدرجة متطرفة حتى بالمعايير المصرية. وبعد عامين من إطاحة محمد مرسي، أول رئيس منتخب ديموقراطياً العام 2013، حذّر السيسي نجوم الفن من أنهم "سيحاسبون" لو لم تعكس أعمالهم النظرة الإيجابية للدولة.بعدها، أمّم السيسي الإعلام، وترك رجاله يتحكمون في العرض الذي يجب بثه. وفي العام 2016 بدأت شركة تملكها المخابرات بشراء القنوات التلفزيونية الكبيرة في مصر. ومنذ العام 2018 أنتجت واحدة من شركاتها وتدعى "سنيرجي"، التي قدمت مسلسل "الاختيار"، أهم المسلسلات السنوية في ما وصفه مخرجون مستقلون بأنه "احتكار".ورغم أن الحكومات المصرية مارست الرقابة تاريخياً، إلا أن حسني مبارك الذي حكم بين العامين 1981 و2011 سمح بالمسلسلات والأفلام التي عالجت الوحشية والفساد وحتى مسألة المثليين جنسياً. وقال المنتجون أن الأفلام التي تعود إلى تلك الفترة ستُمنع اليوم. فالتلميحات الجنسية التي كانت عامة في أفلام المراحل السابقة، باتت ممنوعة. ولا يسمح بتصوير مشاهد عن الفقر المدقع كي لا يشعر أحد أن مصر تكافح اقتصادياً، فيما يجب تصوير قوات الأمن بصورة إيجابية.وبحسب "إيكونوميست" يشعر النظام الحالي أن الأفلام القديمة التي صورت رجال الأمن بدور الشرير، كانت عاملاً غذّى الاحتجاجات ضد الشرطة العام 2011. ويبدو أن رجال السيسي فاتهم أن الاحتجاجات تلك اندلعت نتيجة تصرفات رجال شرطة قذرين. وقال عز الدين فشير، الدبلوماسي السابق في عهد مبارك، أن "النظام يتعامل مع ما حدث قبل عشرة أعوام على أنه فشل ثقافي".لكن من الواضح أن الدراما المصرية التي تتحدث عن بطولة الشرطة تحظى بشعبية بين المصريين، لكن التلفزيون المصري لم يعد مثيراً كما كان قبل الانقلاب، ويواجه منافسة متنامية من مسلسلات أخرى. فعلى مدى السنوات الماضية، بثت القنوات التلفزيونية المحلية المسلسلات السورية والتركية التي تنافست مع المسلسلات المحلية لجذب انتباه المصريين. كما أن هنالك مراكز إنتاج أخرى في الأردن والسعودية والإمارات، ومنصات البث مثل "نتفلكس" العالمية و"شاهد" الإقليمية، وكلها تعطي المشاهد فرصة للاختيار.ولعل إحد الإشارات الواضحة عن تراجع القوة المصرية الناعمة، عربياً، هي أن جيل الألفية يجد صعوبة في فهم اللهجة المصرية مثل آبائهم. ويركز السيسي جهوده للتأثير في المصريين. فمسلسل "الاختيار" يتبنى مزاعم لا أساس لها عن الإخوان المسلمين الذين حكموا قبل السيسي. وكذلك فيلم "السرب" الذي يمجّد غارة جوية قتلت 40 جهادياً وسبعة مدنيين في مدينة درنة اللليبية، لكن الفيلم تجاهلهم.
وقال مخرج في القاهرة لم تكشف المجلة عن هويته: "إنهم يستخدمون أحسن المواهب وأكبر الميزانيات والنجوم"، معتبراً أنه "حتى لو كانت دعاية، فنوعيتها تتحسن"، علماً أن الموسم الثاني من "الاختيار" سيتعرض لمذبحة "رابعة" في آب/أغسطس 2013 والتي قتلت فيها قوات الأمن تحت قيادة السيسي، مئات المعتصمين، واعتبرتها منظمة "هيومان رايتس ووتش" "أكبر عملية قتل للمتظاهرين في العالم خلال يوم واحد، ولم يمر مثلها في التاريخ القريب"، لكن المسلسل سيصور بالتأكيد بطولة الشرطة المصرية.وفي العام 2019، كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" أن عناصر أمنية في الحكومة المصرية أبلغت المخرجين والمنتجين في البلاد، بضرورة أن تتضمن مسلسلاتهم إشادة بالجيش والشرطة، وتشويهاً لسمعة جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، وأن كلُّ من يخالف تلك القواعد لن يُبث إنتاجه.وبحسب مخرجين وممثلين مصريين، فإن مسؤولي حكومة السيسي باتوا يملون عليهم النصوص الواجب تمثيلها، ويحددون الأجور، علماً أن السيسي تدخل في النقاش حول ما يعرض عبر محطات التلفزيون المصرية في خطاب له العام 2017، عندما مدح البرامج التلفزيونية القديمة، منتقداً الإنتاجات الحالية، ورد المسؤولون في العام التالي بالضغط على صناع الأفلام من خلال الرقابة والترهيب الخفي.وتعتبر "المجموعة المصرية للإعلام" شركة إنتاج لها صلات بالمخابرات المصرية العامة، وهي الشركة التي تهيمن على الإنتاج التلفزيوني، كما أنها اشترت العديد من شبكات التلفزيون في مصر. وقد يكون هذا التوجيه دليلاً آخر على وجود اختلاف كبير بين السيسي ومبارك. ففي عهد مبارك كان هناك، على ما يبدو، رضى عن وجود خلل وظيفي في مصر، بينما يسعى السيسي إلى إعادة تشكيل الهوية الأخلاقية والفكرية للمصريين، و"تطهير" ما يعتبره تيارات فكرية خطيرة على المجتمع، فقد حاضر في المصريين، ودعاهم للالتزام بأخلاق معينة، وحذّرهم حتى من السّمنة.