لم يحتج المشهد اللبناني أكثر من ساعات قليلة بعد اغتيال هيثم طبطبائي، حتى انفجرت دفعة واحدة كل التصدعات الداخلية، من جهة، وموجات الضغط الخارجية، من جهة ثانية. فالعملية التي شكلت تحولا استراتيجيا في ميزان الصراع بين حزب الله وإسرائيل، سرعان ما تحولت إلى كرة نار داخلية، أظهرت هشاشة الاصطفافات وتناقض الحسابات، معيدة إنتاج خطاب سياسي متوتر ومتشنج، لا يشبه سوى المراحل التي تسبق العواصف الكبرى، في لحظة تنذر بأن ما بعد الاغتيال ليس كما قبله، وأن البلاد دخلت مرحلة اختبار جديدة عنوانها، منع الانهيار السياسي من اللحاق بالانفجار الأمني.
في موازاة ذلك، جاءت الضغوط الدولية غير المسبوقة في حدتها وتزامنها، لتزيد «الطين بلة». فواشنطن مستمرة في رفع نبرة التهديد، وباريس دخلت مرحلة القلق الصريح على «مبادرتها»، والقاهرة أطلقت إشارات تحذير حول مصير التهدئة التي تعمل عليها، فيما العالم ينظر إلى لبنان بعيون أكثر توترا، ما يعيد الى الواجهة السؤال الاساسي عما اذا كان لا يزال لبنان قادراً على البقاء خارج الحرب، أم أن الزمن الإقليمي يجره اليها رغماً عنه.
هكذا، تتداخل خطوط النار مع خطوط السياسة، فالتصعيد الداخلي لم يعد مسألة سجال أو مواقف، بل جزءا من لوحة إقليمية أوسع ترسم حدودها بالنار، اذ بات واضحا أن الاغتيال فتح الباب على مرحلة لا تشبه سوى نفسها، حيث يتارجح لبنان على حبلي الضغوط الدولية والانقسام الداخلي، فيما تسير ساعة الوقت بسرعة أكبر من قدرة السلطة على اللحاق بها.
قلق دولي
مصادر ديبلوماسية مواكبة اشارت، الى ان تل ابيب «نجحت» خلال الساعات الماضية في اعادة خلط الأوراق السياسية والديبلوماسية في لبنان، وتعقيدها، خصوصاً تلك المرتبطة بالمبادرتين الفرنسية والمصرية، اللتين تشكلان اليوم الإطارين الأكثر جدية لاحتواء التصعيد بين لبنان وإسرائيل، اذ يبدو واضحا أن باريس والقاهرة تلقتا الضربة باعتبارها رسالة مباشرة إليهما، متابعة، ان المبادرتين، على اختلاف مساريهما، انطلقتا من فرضية أساسية مفادها أن مستوى الاشتباك الحالي قابل للضبط، وأن الأطراف، رغم سقوفها الاعلامية العالية، لا تزال مستعدة للذهاب نحو تفاهمات توقف الانفجار، لكن اغتيال طبطبائي، نسف هذه الفرضية أو على الأقل هزّها بقوة.
التحرك الفرنسي
ورأت المصادر ان التحرك الفرنسي، الذي انطلق من الرهان على «تدرج هادئ» في التفاوض حول الانسحاب الإسرائيلي وتعديل قواعد الاشتباك، بات اليوم أمام معادلة مختلفة، اذ ان «الثنائي الشيعي»، الذي كان يتعاطى مع الأفكار الفرنسية من موقع براغماتي، على ما بينته اللقاءات والاتصالات المباشرة بين الفريقين، علنا وفي السر، مضطر إلى رفع سقفه السياسي والأمني، وبالتالي، فإن أي نقاش حول ترتيبات جنوب الليطاني أو آليات وقف النار سيخضع لإعادة تموضع شاملة، ما يعني عمليا تباطؤ المبادرة وربما تجميدها مرحليا في انتظار جلاء المشهد.
المبادرة المصرية
أما المبادرة المصرية، ذات الطابع الإقليمي الأوسع والمتصلة مباشرة بمسار غزة، فتبدو الأكثر تأثراً، على ما ترى المصادر، فالقاهرة التي كانت تعمل على مزيج من الضغوط والضمانات لاحتواء الجبهة اللبنانية ودمجها في مسار تهدئة شامل، بعد نجاح رئيس مخابراتها في تحقيق مكاسب تدعم تحركه، نتيجة ليونة كبيرة في مواقف «الثنائي الشيعي»، دفعت بالقيادة المصرية الى ارسال وزير خارجيتها، الذي وصل الى مطار رفيق الحريري الدولي مساء امس، لاستكمال المباحثات، حيث على جدول اعماله لقاء مع شخصية بارزة ومهمة في «الثنائي»، تلقفت بقلق الاشارة الاسرائيلية، المدعومة اميركيا، بتوسيع هامش الضغط على جبهتي حزب الله وإيران، وهو ما يضع مسعى القاهرة امام معضلة اساسية حول كيفية دفع الاطراف نحو «صفقة شاملة»، فيما تل أبيب تختار التصعيد المدروس بدل التهدئة، متكئة الى «قبة باط» اميركية واضحة.
الخطر الاميركي
فالعلاقات اللبنانية- الأميركية تشهد واحدة من أكثر مراحلها حساسية منذ سنوات، ذلك ان التصعيد الذي تظهره واشنطن تجاه بيروت لم يعد مجرد رسائل ضغط متفرقة، بل مقاربة متكاملة تتعامل مع لبنان بوصفه ساحة متداخلة مع أمن إسرائيل وحسابات المنطقة، لا كحليف تقليدي أو شريك مستقر، وفقا للمصادر، التي كشفت ان مسؤولون في البيت الابيض اكدوا لاكثر من جهة، ان لا مخططات حاليا للرئيس ترامب للقاء نظيره اللبناني، كما ان الاتصالات الجارية في ما خص ملف زيارة قائد الجبش العماد رودولف هيكل، ما زالت تراوح مكانها، دون احداث أي تقدم، خصوصا في شقها المتعلق بوزارة الخارجية والكونغرس.
واضافت المصادر ان خطورة الموقف الأميركي حاليا، تتمحور حول ثلاث نقاط: اولا، الاستياء المتراكم من استمرار نفوذ حزب الله داخل الدولة ومن غياب أي تقدم في ملف ضبط الحدود الجنوبية أو تنفيذ القرار 1701، ثانيا، الرغبة الأميركية الواضحة في إعادة رسم قواعد اللعبة السياسية الداخلية وتوازناتها، أما ثالثاً، فمرتبط بالمزاج الأميركي الداخلي نفسه، حيث يزداد الضغط من الكونغرس ومراكز النفوذ لربط أي دعم للبنان بسلوك سياسي وأمني محدد.
وتخلص المصادر الى ان الاغتيال لم يسقط المبادرتين، لكنه بالتأكيد أخرجهما من إيقاعهما الطبيعي، فباريس اليوم في موقع المراجعة، والقاهرة في موقع الإرباك، بينما ينتظر الجميع طبيعة رد حزب الله لتحديد الاتجاه، سواء نحو تسوية جديدة بشروط مختلفة، أو نحو مرحلة مفتوحة من الكباش الإقليمي.
رسالة ترامب
وكان أكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في برقية تهنئة وجهها إلى رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون لمناسبة ذكرى الاستقلال، تطلعه الى تعميق الشرْكة بين الولايات المتحدة ولبنان «بينما نسعى معا لبناء مستقبل اكثر اشراقاً للأجيال المقبلة».
ولفت ترامب، في البرقية التي نشرتها رئاسة الجمهورية، إلى أنّ «بالنيابة عن شعب الولايات المتحدة، أتقدم بأصدق التهاني لكم ولشعب لبنان بمناسبة الذكرى الثانية والثمانين لاستقلال بلدكم. يُجسد هذا اليوم احتفاءً بالتاريخ الغني للبنان، وثقافته النابضة، وروح شعبه المتأصلة».
وأضاف: «لبنان موجود على مفترق طرق تاريخي، مع فرصة لرسم مسار نحو مزيد من الاستقرار والازدهار الاقتصادي للبنان وشعبه. وأشيد بالقرارات الشجاعة التي اتخذتها الحكومة».
حزب الله – الرياض
غير ان الأثر الأعمق لما حصل، يتوقع ظهوره في مسار الانفتاح بين الثنائي والسعودية، الذي كان بدأ قبل فترة مع «لقاء ليلي» جمع موفد المملكة الى بيروت مع مسؤول في الثنائي، طلب من بعده الامير يزيد بن فرحان من مجموعة اعلاميين اجتمع بهم في لقاء يعقده للمرة الاولى، تخفيف النبرة والتصعيد ضد الثنائي وطهران، كنتيجة لتطور المسار البطيء بين الطرفين، على ما تؤكد اوساط متابعة، التي اكدت ان المداولات الهادئة، المباشرة أحياناً وغير المباشرة غالباً، كانت تسعى إلى بناء أرضية جديدة للعلاقة، تستند إلى تهدئة إقليمية أوسع، وإلى إعادة ترتيب التوازنات داخل لبنان بما يتناسب مع مرحلة ما بعد تسوية اليمن والتفاهمات السعودية – الإيرانية.
وتتابع الاوساط، يبدو ان اسرائيل نفذت من ثغرة دقة التوقيت وتداخل الملفات بين بيروت وغزة وطهران، لتستهدف باغتيالها، هذا المسار، حيث يتوقع ان يزور موفد سعودي خاص بيروت خلال الايام المقبلة لمتابعة التواصل مع الثنائي، رغم ان الاغتيال اعاد تسليط الضوء على المعادلة التي تدركها السعودية جيداً بان أي تحرك تجاه الثنائي لن يصبح ذا جدوى إذا كان لبنان نفسه يدخل مرحلة تصعيد قد تطيح كل الهدن السياسية التي يجري العمل عليها، كما ان الثنائي يدرك أن أي علاقة مستقرة مع الرياض تتطلب بيئة إقليمية أقل توترا، وهو ما لا توفره اللحظة الراهنة.
وتختم الاوساط بان الانفتاح السعودي على الثنائي لم يسقط، لكنه بالتأكيد دخل مرحلة اختبار صعبة فرضتها التطورات الاخيرة، فإذا نجح الطرفان في منع الاغتيال من التحول إلى منعطف تصادمي، قد يستأنف المسار لاحقا بزخم أكبر، أما إذا توسعت دائرة ردود الفعل، فإن النافذة الضيقة التي فتحت قبل مدة قد تغلق من جديد، في انتظار ظروف إقليمية جديدة.
الانتخابات النيابية
على صعيد آخر، انتخابيا، وسط موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري وتمسكه بالقانون الحالي كما هو، اشارت اوساط نيابية الى ان الامانة العامة في مجلس النواب تسلمت مشروع الحكومة المعجل المكرر لتعديل قانون الانتخابات، مرجحة ان يقوم رئيس المجلس بإحالته الى اللجنة الفرعية لدرسه ومناقشته.
ورات الاوساط ان المعارضة تتجه في حال اصرار المجلس النيابي، على موقفه، للضغط على رئيس الجمهورية لاتخاذ الخطوات الضرورية، رغم ادراكها ان الامور قد لا تكون محسومة النتائج، ملمحة الى ان الخارج يراقب مواقف الاطراف في هذا الملف ويتجه الى اتخاذ الخطوات التي يراها مناسبة.
الى ذلك، اشارت مصادر وزارية، الى ان اللجنة المنبثقة من وزارتي الخارجية والمغتربين والداخلية والبلديات، تواصل عقد اجتماعاتها الدورية أسبوعيا، في إطار تحضير وتجهيز الترتيبات اللوجستية اللازمة للانتخابات، لا سيما ما يتعلّق بآلية اقتراع المغتربين في الخارج، وفقًا لأحكام القانون النافذ الذي يعتمد النظام الانتخابي على أساس الدوائر ال16، حيث شارفت اللجنة على انهاء تقريرها المفصل حول المقترحات المتعلقة بتقسيم الدوائر ال 16 وتوزيع مقاعدها وآليات التنفيذ اللوجستي، خلال الأسبوعين المقبلين ليرفع إلى الوزيرين المعنيين، تمهيدا لاحالته إلى مجلس الوزراء، وذلك لبحثه في أقرب جلسة حكومية واتخاذ القرار المناسب بشأنه، كاشفة ان اقتراح اللجنة يتمحور حول استحالة تنفيذ انتخابة الدوائر ال16، وهو ما تضعه مصادر سياسية في اطار جولة تصعيد جديدة، خصوصا في حال تبني الحكومة وجهة النظر التي تقول بعجزها عن تأمين الانتخابات في الدوائر ال16.
زيارة البابا
ورغم مشهد غرق الطرقات والمستشفيات والوزارات بأمطار تشرين، واحتمالات غرق لبنان بحرب جديدة، تقدمت زيارة البابا لاوون الرابع عشر مشهد الاهتمام الرسمي والشعبي، اذ عقدت اللجنة الرسمية المنظمة للزيارة مؤتمرا صحافيا، أطلعت خلاله المواطنين والإعلاميين على الترتيبات اللوجستية والأمنية والإعلامية.
على خط مواز، علم ان لبنان كثف من حركة اتصالاته بالعواصم المعنية للضغط على اسرائيل لوقف عملياتها خلال فترة وجود البابا في لبنان، الا ان الاخيرة تمتنع حتى الساعة عن التعهد بذلك، رغم تدخل اكثر من جهة فاعلة، نصحت بيروت باتخاذ تدابير مشددة واستثنائية، وهو ما اكدت عليه الجهات المواكبة للتحضيرات، والتي رجحت مشاركة نحة 120 الف شخص في قداس الواجهة البحرية، الى جانب اكثر من 500 شخصية رسمية، وتغطية 1200 صحافي من لبنان والعالم.
محاكمة فضل شاكر
في الملف القضائي، وفيما كانت الانظار متجهة نحو الجلسة الاولى لاستجواب فضل شاكر، امام هيئة المحكمة العسكرية، جاءت المفاجأة بتأجيل الجلسة بعد اقل من نصف ساعة من انعقادها الى شباط المقبل، بطلب من محاميته، «كونها لم تتطلع على كامل ملفاته القضائيّة»، رغم اعتراضها على الاجل البعيد لموعد الجلسة المقبلة، علما انها كانت طالبت رئيس المحكمة بان تكون الجلسات سرية، الا ان العميد وسيم فياض رفض طلبها.
وكانت مجموعة خاصة من مديرية المخابرات، قد قامت باحضار شاكر من مقر توقيفه في وزارة الدفاع الى المحكمة العسكرية، وسط تدابير أمنية مشدّدة اتخذتها الشرطة العسكرية في محيط المحكمة، حيث دخل قاعة المحكمة، طليق اليدين، يرتدي قميصا أبيض اللون، وذقن مشذبة، ونظارات سوداء اللون، وقد بدت عليه علامات «الضعف».
«الشتوة الاولى»
ومع اول «شتوة»، استفاق اللبنانيون على شوارع وطرق رئيسية قد تحولت الى انهار ومستنقعات، خصوصا عند مداخل العاصمة جراء غزارة الأمطار وتشكل سيول جارفة كما ظهر في مقاطع الفيديو التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي ادت الى إقفال نفق طريق المطار وتشكلت السيول وصولاً إلى أوتوستراد خلدة المؤدي إلى صيدا جنوباً، كما اجتاحت الأمطار مبنى وزارة العمل، ما أدى إلى محاصرة الموظفين والمواطنين داخل المبنى.
من جهتها، أعلنت غرفة التحكم المروري عن إقفال عدد من الطرق أمام السيارات والمواطنين نتيجة تجمع مياه الأمطار في منطقة الاوزاعي – نفق كوستا براڤا، وصعوداً باتجاه مستديرة الجندولين، تقاطع الرحاب المشرفية، وأظهرت مقاطع الفيديو تشكل سيول جارفة في محلة سوق صبرا ما أعاق حركة المرور ودفع الباعة والمواطنين إلى التوقف على جانبي الطريق والأرصفة المرتفعة، كما غرق القسم الأكبر من سوق الأحد في منطقة سن الفيل، وتسببت الأمطار الغزيرة أيضاً بغرق جسر الرينع، ما أدى إلى توقف شبه كامل لحركة المرور في المنطقة. وامتدت آثار الفيضانات إلى الأشرفية طلعة ساسين، حيث شهدت الشوارع اختناقًا مروريًا شديداً بسبب تجمع المياه وصعوبة تحرك السيارات.
مصادر وزارة الاشغال، اكدت ان كمية الامطار الكبيرة التي تساقطت في غضون 20 دقيقة، تسببت بتجمع المياه على الطرقات العامة، نتيجة البنية التحتية المترهلة، وقلة مسؤولية المواطنين من خلال الرمي العشوائي للنفايات على الطرقات، ما خلق «ارباكا» تسبب بازمة، نجحت الوزارة في معالجتها بسرعة، مشيرة الى انه عندما تتخطّى غزارة الأمطار التوقعات فمن الطبيعي أن تتجمع المياه وهذا امر طبيعي يحصل في كل البلدان، كاشفة ان الوزارة وضعت خطط طوارئ، بالتعاون مع وزارات اخرى، للتعامل مع أي «وضع مناخي غير استثنائي» خلال زيارة البابا، الاسبوع المقبل، خاتمة بان المهم ليس تشكل السيول بحد ذاته بل الوقت اللازم لحل المشكلة.