منذ أن وُلد مفهوم الدولة، ارتبطت شرعيتها بقدرتها على بسط السيادة، وتحقيق العدالة والرعاية..
فالدولة ليست مجرد سلطة فوق الأرض، بل هي منظومة قوانين ومؤسسات وهوية جامعة لكل الأطياف التي نشأت وترعرعت في تلك الأرض.
في المقابل، تنشأ “الدويلة” حين تتراجع الدولة عن دورها ووظائفها، وتسمح لقوى موازية أن تنشئ لنفسها شرعية بديلة، أو “دولة داخل الدولة”، تستمد نفوذها من قوة مالية أو عسكرية أو من عصبية وطائفية.
الدولة، في جوهرها، كيان سياسي جامع، ومنظومة دستورية واحدة..
أما “الدويلة”، فهي نتاج ضعف في البنية المؤسسية للدولة. وانقسامات داخلية متعددة..
ولعلّ أخطر ما في “الدويلة” ليس وجودها المادي فحسب، بل شرعنة خطابها في الوعي العام، حين يبدأ الناس بالنظر إليها كبديل واقعي عن الدولة، في غياب العدالة أو السيادة أو الخدمات أو الأمن والأمان.
الدولة تسقط، عندما تنفصل السلطة عن الناس، وتتحوّل قراراتها الوطنية إلى ملكية حصرية لفئة أو زعيم أو طائفة..
وحين تتسع الفجوة بين طبقات المجتمع، ويتحوّل الولاء من الوطن إلى الجهة التي ترعى وتخدم أفراد هذا المجتمع..
وحين تتخلى عن بناء قوة رادعة وتتنازل عن مبدأ احتكارها للسلاح، وحين تعجز عن حماية الحقوق في كل ساح..
أما “الدويلة”، فتنمو عادة في فراغ الدولة، وهي إبنة الضعف لا القوة..
للدولة دور أساسي في إلغاء فكرة الدويلة، لا يتحقق بالمواجهة الأمنية وحدها، بل بإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة..
من خلال إعادة الإعتبار للقانون والمؤسسات بوصفها المرجع الوحيد في إدارة الشأن العام بكل شفافية..
وإستعادة احتكار القوة ضمن منظومة شرعية خاضعة للرقابة والمساءلة في كل قضية..
وتقييم وتقديم العدالة الاجتماعية والاقتصادية كي لا يجد المواطن نفسه مضطراً للانتماء إلى كيان مواز بحثاً عن خبز وأمن وأمان وحريّة..
ومن خلال حوار وطني شامل يُعيد تعريف الانتماء على أساس المواطنة لا العصبية..
إن بين الدولة والدويلة:
مسافة تُقاس بقدرة الأولى على إستيعاب الثانية، وتحويل الاختلافات المجتمعية والخلافات السياسية، إلى تنوع منتج لا إلى صراعات مدمّرة..
ومحطات يجب أن نقف عندها، ليس لإطلاق السجالات في الخطابات، بل للبحث عن أدلة في الميدان تثبت أن الدولة قادرة على أن تكون المظلّة الوحيدة والعادلة لجميع أبنائها.. قبل أن نجد أنفسنا في “دويلات صغرى” تتناحر داخل وطن واحد، فقد عقلاءه الحكمة والإرادة والسيطرة…
موقع سفير الشمال الإلكتروني