في عالم تتجاذبه الأهواء والمصالح، تبرز ثقافتان متقابلتان تترك كلٌّ منهما بصمتها على الموقف السياسي والبعد الإنساني.
“ثقافة الإفراط وثقافة التفريط”.
هاتان الثقافتان ليستا مجرد مواقف آنية، بل هما إنعكاس لفكر وسلوك مجتمعي يحدد طريقة النظر إلى الذات، وإلى الآخر، وإلى مفاهيم الحق والقوة والكرامة والعدالة.
واذا كانت ثقافة الإفراط هي الوجه المتشدد والغلوّ في المواقف.
ففي السياسة، تظهر هذه الثقافة حين يتحول الدفاع عن الموقف إلى رفض للحوار، وإنكار للواقع، وتمجيد للشعارات على حساب النتائج.
وتتجلى في الخطاب الذي يرى العالم بلونين فقط: إما معنا أو ضدنا، فيرفض المراجعة والمحاسبة، ويُقصي كل مخالف لرأيه حتى لو كان من داخل الصف ذاته.
وعلى المستوى الإنساني، تنتج هذه الثقافة، قسوة فكرية وتصلّباً وجدانياً، حيث تتحول القضايا المحقة، إلى شعارات تُستهلك دون وعي عملي بمضمونها ومآلاتها.
أما ثقافة التفريط، فهي التنازل عن الثوابت تحت شعار الواقعية أو المصالح.
وفي السياسة، تظهر في الميل إلى قبول الهيمنة أو تبرير الانكسار، أو إلباس الضعف لبوس “الواقعية السياسية”.
وتُنتج ذهنية التبرير والإنصياع، حيث يصبح التنازل سياسة، والتخلي عن الحقوق حكمة، وتُختزل الكرامة في معادلة اقتصادية أو اتفاقية سياسية هشة.
إنها نوع من “الانبطاح الذكي” كالذي يُقنع نفسه بأنه يحافظ على ما تبقّى، بينما هو في الواقع يذيب ما تبقّى من الهوية والكرامة.
وتتجلى هذه الحقائق في الصراع الدائر في منطقتنا منذ عقود، حيث الإفراط والتفريط وجهان لهزيمة الوعي عند الشعوب.
ولعل القضية الفلسطينية المثال الأبرز لتجلّي هاتين الثقافتين في آنٍ واحد.
فمن جهة، يتمثل الإفراط في بعض الخطابات التي رفعت شعارات دون أدوات أو تخطيط، ورفضت كل أشكال العمل المرحلي، حتى تآكلت قدرتها على التأثير.
ومن جهة أخرى، ظهر التفريط في التسويات السياسية المفرطة في التنازلات، حيث جرى تحويل الصراع من قضية تحرّر إلى ملف إداري أو تجاري.
وبين هذين الحدّين، ضاعت البوصلة، فبدلًا من بناء توازن سياسي وأخلاقي يقوم على التمسك بالحق دون إنكار الواقع، سقطت المنطقة في ثنائية مؤلمة:
فريقٌ يرفع شعارات بلا أدوات حقيقية، وفريقٌ يرفع شعارات بلا كرامة ولا سيادة.
من هنا كنّا وما زالنا، بحاجة الى ثقافة التوازن والوعي، لأن الحل لا في الإفراط الذي يحرق كل الجسور، ولا في التفريط الذي يهدم آخر الحصون، بل في ثقافة التوازن والوعي، حيث تكون المصلحة مرتبطة بالمبدأ، والسياسة خادمة للكرامة والسيادة.
الثقافة المتزنة هي التي تجمع بين الإيمان بالقضية والقدرة على إدارة الصراع، وبين مقاومة واقعية ودبلوماسية واعية، وبين صلابة الهوية ومرونة الوسائل المتاحة.
إن أخطر ما يواجه بلادنا ليس عدوها الخارجي فقط، بل خلل ميزانها الداخلي بين الإفراط والتفريط.
فمن دون وعي، ستبقى شعوبنا تتأرجح بين الصوت العالي الفارغ، والصمت المريب الذي يُبرر الهزيمة في كل شارع.
ما بين “الإفراط والتفريط” المانع للتطور والكرامة، يكمن الطريق الثالث الذي يحتاج لحكمة وهمة، طريق الذهنية المرنة والإدارة المتزنة والإرادة الحرة.
حيث تُصان المبادئ والحقوق، وتُدار السياسة بضمير حيّ لا يرضى بالظلم والمذلة والقيود.
الشرع يردع عدوان الفساد!.. بقلم: د. عاصم عبد الرحمن
المتحف المصري الكبير يستقبل 18 ألف زائر في أول يوم تشغيل
حصاد “″: أهم وأبرز الاحداث ليوم الثلاثاء
وزير الدفاع السوداني: الجيش سيواصل القتال بعد مقترح الهدنة الأميركي
The post “الافراط والتفريط”.. ثقافتان تتنازعان الوعي السياسي والإنساني من المحيط إلى المحيط!.. بقلم: د. عبدالرزاق القرحاني appeared first on .