يشهد لبنان مرحلة اقتصادية دقيقة تتشابك فيها العوامل السياسية والمالية والاجتماعية، ما يجعل مسار التعافي محفوفاً بالتحديات. ورغم بعض مؤشرات الاستقرار النسبي، لا تزال الصورة العامة غامضة وتخضع لتقلّبات السوق الداخلية والعوامل الخارجية المؤثرة.
في ظل هذه التقلبات، يبرز ملف الأمن الغذائي كأحد أبرز جوانب الأزمة الاقتصادية، إذ تتداخل فيه قضايا الدخل والقدرة الشرائية وسعر الصرف، ما يجعله مرآة تعكس الواقع المعيشي للمواطنين. وتُطرح تساؤلات حول مدى قدرة السياسات المحلية على الحدّ من هذه الضغوط وتثبيت الأسعار.
وتأتي التقارير الدولية الأخيرة لتسلّط الضوء على هذا الواقع من زوايا متعددة، مشيرة إلى مؤشرات تستدعي المتابعة والتحليل. فبين القراءات الرقمية والتجارب اليومية للمواطنين، يبقى السؤال مطروحاً حول ما إذا كانت البلاد تتجه نحو استقرار فعلي أم إلى دورة جديدة من الأزمات الاقتصادية.
وبحسب أرقام البنك الدولي الأخيرة المتعلّقة بالأمن الغذائي، ارتفعت أسعار الغذاء في لبنان في الأشهر الـ11 الأخيرة بشكل كبير، ولم ينخفض معدّل التضخّم الشهري في أثناء هذه المدّة عن نسبة 20%، إذ يبلغ المعدّل الشهري للارتفاع في أسعار الغذاء في هذه المدّة نحو 21.4%.
هل ارتفعت الأسعار فعلاً؟
في حديثٍ خاص إلى “النهار”، يؤكد نائب رئيس غرفة التجارة والصناعة في بيروت ونقيب أصحاب “السوبرماركت” نبيل فهد أن “ارتفاع الأسعار في لبنان في الآونة الأخيرة هو ارتفاع تراكمي مدى عامٍ كامل”، موضحاً أنّ “نسبة العشرين في المئة ليست معدّلاً شهرياً، بل هي حصيلة تراكمية لمدة اثني عشر شهراً”.
ويشير إلى أنّ “المعدل الشهري للتضخّم يراوح بين 1 و2 في المئة، وقد شهد نيسان/ أبريل وأيار/ مايو انخفاضاً في الأسعار بنحو 1 في المئة لكلٍّ منهما، ما يعني أنّ التضخّم كان سلبياً خلال تلك الفترة، أي أنّ الأسعار تراجعت بدلاً من أن ترتفع”.
وهذا الارتفاع الإجمالي في الأسعار يعود بمعظمه كما يشرح فهد، إلى “أسباب خارجية، أبرزها ارتفاع سعر صرف اليورو في مقابل الدولار، وزيادة أسعار المنتجات الغذائية والسلع الأساسية في عدد من الدول، إلى جانب ارتفاع تكلفة الشحن والتأمين، ما انعكس على أسعار السلع المستوردة في السوق المحلية”.
ويُتابع نقيب أصحاب “السوبرماركت”: “هناك أيضاً عوامل داخلية ساهمت في ارتفاع الأسعار، منها زيادة الأجور بنسبة تقارب 50 في المئة، أي من نحو 200 دولار إلى 312 دولاراً، ما دفع العديد من المؤسسات والمصانع إلى تعديل أسعار منتجاتها بما يتناسب مع ارتفاع تكلفة اليد العاملة، ولا سيّما منها تلك التي تعتمد على العمالة الكثيفة في الإنتاج”.
كذلك يشير إلى أنَّ “زيادة الرسوم والضرائب، مثل رسوم الأملاك المبنية والرسوم البلدية وغيرها من المتوجبات على المؤسسات، رفعت من الأعباء التشغيلية، ودَفعت العديد منها إلى رفع أسعارها لتتمكن من الاستمرار في العمل”.
ويرى أنه “في الشهرين الماضيين لم تسجل زيادات كبيرة في الأسعار، إذ ساد نوع من الاستقرار، باستثناء بعض السلع الأوروبية التي تسعّر باليورو، والتي أُعيد تسعيرها استناداً إلى ارتفاع سعر صرف العملة الأوروبية”.
ويقول فهد إنَّ “الشركات والمؤسسات لا ترفع أسعارها بالوتيرة نفسها، فبعضها يُبقي أسعاره مستقرة لفترات طويلة بدافع المنافسة أو لاكتساب حصّة أكبر من السوق، قبل أن تُجري تعديلات تدريجية تتماشى مع تغيّرات سعر الصرف. لذلك، تظلّ السوق تشهد تفاوتاً في الأسعار نتيجة اختلاف استراتيجيات التسعير بين المستوردين والمؤسسات”.
انقطاع في السلع؟
يعيش اللبنانيون هاجساً دائماً من انقطاع السلع في المتاجر، إذ بات أي توتر سياسي أو اقتصادي كفيلاً إثارة موجة قلق تدفع الناس إلى التهافت على شراء المواد الأساسية وتخزينها، خوفاً من تكرار أزمات سابقة شهدت فراغ الرفوف وارتفاع الأسعار بشكل مفاجئ.
في هذا الإطار، يوضح فهد في حديثه أنَّ “الأسواق لم تشهد أيّ انقطاع في السلع خلال الفترة الماضية، بل على العكس، جميع السلع متوافرة وبكميات كبيرة”، لافتاً إلى أنَّ “العرض من مختلف أنواع السلع، سواء الغذائية منها أو الاستهلاكية، ومن مختلف الدول المصدّرة، ما زال متوفراً بشكل طبيعي”.
“تحضير لبعض المحطات”…
إلى ذلك، وفي ظل التوترات الإقليمية والتقلبات الاقتصادية التي تشهدها المنطقة، تبرز تساؤلات في لبنان حول مدى تأثر السوق المحلية بهذه التطورات، خصوصاً على صعيد توافر المواد الغذائية واستقرار الإمدادات.
ويؤكد رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي لـ”النهار”، أنّّ “الحديث عن احتمال اندلاع حرب شاملة على لبنان يزداد في الآونة الأخيرة نتيجة التطورات الإقليمية المتسارعة”، مشيراً إلى أنَّه لا يرغب في التعليق على هذا الملف سياسياً، لكن لا يمكن تجاهله تماماً.
ويوضح أنّ “مثل هذه الأجواء قد تدفع بعض الجهات إلى تخزين المواد الأساسية تحسّباً لأي طارئ”، إلا أنّه يستبعد حصول ذلك من الناحية الاقتصادية.
ويضيف: “نحن اليوم في تشرين الأول/ أكتوبر، ولبنان بدأ بالاستعداد لموسمين اقتصاديين مهمين جداً: موسم عيدَي الميلاد ورأس السنة، وهما فترة ذروة في الطلب على المواد الغذائية والاستهلاكية، وكذلك موسم رمضان الذي يبدأ في 15 شباط/ فبراير تقريباً، أي بعد نحو ثلاثة أشهر فقط، ما يعني أنّ التحضيرات يجب أن تبدأ من الآن”.
ويشير إلى أنّّ “التجار باشروا فعلاً تقديم طلباتهم واستيراد الكميات اللازمة تحضيراً لهذه المواسم، ولذلك سيكون هناك تخزين كافٍ من مختلف الأصناف لتلبية الطلب خلال هذه المحطات الاقتصادية الكبرى”.
أزمة إمدادات؟
وهل هناك مشكلات في الإمدادات أو سلاسل التوريد؟ يؤكد بحصلي أن “على المستوى العام لا توجد أزمة إمدادات حالياً”، قائلاً: “صحيح أنّ بعض المشكلات ما زالت قائمة منذ فترات سابقة، مثل أزمة البحر الأحمر، وتأخر السفن التي تمرّ عبر إفريقيا، وارتفاع تكلفة الشحن والتأمين، إضافة إلى الصعوبات الإدارية في مرفأ بيروت، واستمرار تداعيات الحرب في أوكرانيا وروسيا، فضلاً عن ارتفاع سعر اليورو، إلا أنّ هذه التحديات ليست مستحدثة اليوم، بل اعتادت الأسواق العالمية على التعامل معها والتكيّف ضمنها”.
ويشدّد على أنّه لا توجد حالياً أيّ أزمة تموينية حقيقية، مضيفاً: “يمكنني الجزم بأنّ الأمن الغذائي في لبنان غير مهدَّد في الوقت الحاضر، رغم كل الأزمات والتهديدات القائمة”.
ويُتابع: “بطبيعة الحال، نحن لا نتمنى أن تتطور الأمور نحو الأسوأ، أو أن تندلع حرب جديدة مع العدو الإسرائيلي، لأنّ أي مواجهة من هذا النوع قد تكون مختلفة عن سابقاتها، وربما لا تُحترم فيها قواعد الاشتباك التي كانت قائمة في الحرب الأخيرة، وهو ما قد يجعل لبنان ككل هدفاً مباشراً نظراً الى أنّ اتفاق الهدنة موقّع مع الدولة اللبنانية، وليس مع أي جهة أخرى”.
هل نُخزن أم لا؟
ومع تصاعد المخاوف من احتمال توسّع التوترات الإقليمية، يطرح اللبنانيون تساؤلات حول مدى قدرة السوق المحلية على الصمود، وما إذا كان الأمن الغذائي مهدداً في المدى القريب ويدعو إلى التخزين.
في هذا الشأن، يؤكد بحصلي لـ”النهار” أنَّه “حتى اللحظة لا يوجد ما يدعو إلى القلق أو إلى تخزين استثنائي للسلع، مشيراً إلى أنَّ “الأسواق تعمل بوتيرة طبيعية تتناسب مع الموسم (الفترة التموينينة)، الذي يشمل التحضير للأعياد المجيدة، وشهر رمضان، وحتى موسم الفصح الذي بدأ بعض المؤسسات بالاستعداد له أيضاً”.
رغم توافر السلع حالياً، لا يزال القلق سائداً اللبنانيين خشية أي انقطاع محتمل أو ارتفاع مفاجئ في الأسعار نتيجة التطورات الإقليمية والاقتصادية.
وفي ظل هذه الهواجس المستمرة، يظل الحذر ضرورياً، إذ إن أي تصعيد أو تغير مفاجئ في الأوضاع يمكن أن ينعكس بسرعة على الأمن الغذائي واستقرار السوق.