في ظل المقتلة المستمرة للشعب الفلسطيني في غزة، تتكشف ملامح خطة سياسية وإعلامية غربية معقدة، هدفها الأساس ليس وقف المأساة أو إنصاف الفلسطينيين، بل إعادة توجيه السردية بما يخدم (إسرائيل )ويخفف الضغط المتصاعد على الحكومات الغربية.
تقوم هذه الخطة على توجيه البوصلة من الاحتلال إلى المقاومة، وتقديم حركة حماس باعتبارها المعطل الاساسي لكل مشاريع التسوية .
البداية جاءت عبر إعلان بعض الدول الغربية، التي لطالما وفرت الغطاء السياسي والعسكري (لإسرائيل)، عن اعترافها بالدولة الفلسطينية. للوهلة الأولى قد يبدو هذا التحول نقطة مفصلية، غير أن القراءة العميقة تكشف أنه اعتراف شكلي محسوب بدقة. فهو لم يأتِ بدافع انتصار للحق الفلسطيني بعد سنوات من الجرائم الموثقة، بل بهدف امتصاص غضب الشارع الأوروبي المشتعل بالاحتجاجات، وإظهار الغرب بمظهر الوسيط “العادل” الساعي لحل الدولتين.
إنها خطوة مصممة لتلميع صورة الحكومات الداعمة (لإسرائيل )وتخفيف حدة الاتهامات بالتواطؤ واستمرار الدعم للمشروع الصهيوني .
المرحلة الثانية من هذه المناورة ظهرت في طرح ما سُمّي “مبادرات سلام” أو “هدن إنسانية”. غير أن مضمون هذه المقترحات يعكس شروط المنتصر أكثر مما يعكس تسوية عادلة. هي وثائق استسلامية تعيد إنتاج “صفقة القرن” التي أطلقها ترامب، بنصوص تميل بالكامل لصالح (إسرائيل).
الأخطر أن هذه المبادرات لم تكن غربية صرفة، بل شاركت في صياغتها بعض الحكومات العربية والإسلامية، التي ارتضت أن تحمل نصوصًا مشبعة بالروح (الإسرائيلية) وتقدّمها للمقاومة الفلسطينية على أنها “حل وسط”. عمليًا، تحولت هذه الأطراف إلى أداة إضافية لإضفاء شرعية إقليمية على مشروع استسلام مقنّع، مما يسهل تسويقه أمام المجتمع الدولي.
بمجرد رفض حماس لهذه الشروط المجحفة، تبدأ الرواية الغربية بالاكتمال: “الكرة الآن في ملعب حماس”. عبارة تبدو حيادية لكنها في حقيقتها إدانة مسبقة، تُعفي الاحتلال من المسؤولية وتُحمّل الضحية وزر استمرار المأساة. بهذه الصياغة الماكرة، يظهر الغرب وكأنه قدّم الحلول وفتح باب السلام، بينما في الواقع يفرض إملاءات من طرف واحد.
الهدف من هذه المناورة ليس فقط إيقاف الحرب أو معالجة جذور الصراع، بل أعمق من ذلك. الوثيقة المصاغة تهدف عمليًا إلى إلغاء قضية فلسطين كمشروع سياسي وجماهيري من خارطة الأولويات الدولية. عبر إجبار المقاومة على القبول بشروط استسلامية وشيطنة الرافضين، تسعى الأطراف المتورطة إلى إسقاط “خط الدفاع الأول” عن الحقوق الوطنية الفلسطينية أي المؤسسات السياسية والمقاومة التي تمثل تمسّكًا بالثوابت لتمهيد الطريق أمام مشروع أوسع لإعادة رسم الواقع الجيوسياسي في المنطقة بما يخدم تصوراً أوسع لـ”إسرائيل الكبرى”. بهذا المعنى، لا تصبح الوثيقة مجرد اتفاقية مرحلية، بل أداة استراتيجية لتصفية القضية الفلسطينية سياسياً وجغرافياً.
يبقى السؤال المطروح: هل ستفلح هذه الرواية الجديدة في تخفيف الضغط الشعبي عن الحكومات الغربية
وتمرير هدفها الاستراتيجي؟ المؤشرات تفيد أن الوعي الشعبي آخذ في التنامي، وأن صور الدمار في غزة أصبحت أقوى من أي خطاب دبلوماسي منمّق. ومع ذلك، تراهن هذه الحكومات، ومعها بعض العواصم العربية المتواطئة، على قوتها الإعلامية والسياسية لتوجيه الرأي العام وإعادة إنتاج سردية مقلوبة تُدين الضحية وتبرّئ الجلاد. إذا نجحت، لن تكون النتيجة فقط تهدئة غضب الشارع، بل تغيير الخريطة السياسية لقضية فلسطين برمتها.
الكاتب: عماد العيسى
كاتب وصحافي فلسطيني
موقع سفير الشمال الإلكتروني