في مساءٍ لا يشبه الأمسيات العادية، تداخلت براءة الطفولة مع سحر الكلمة، و اجتمعت طرابلس والميناء على قلب واحد..
إذ احتضن بيت الفن أمسيةً أقامها منتدى أسود الثقافي، وكانت هذه الأمسية أشبه بمرايا نقية تعكس عطر مدينة تحاول أن تتنفس من جديد عبر أصوات أطفالها.
منذ اللحظة الأولى، بدا أن الحدث يتجاوز إطار النشاط الثقافي الروتيني. فالحضور تنوّعت وجوهه بين مثقفين وفنانين وأدباء وأهالٍ، وكلّهم جاءوا ليشهدوا هذا الحدث النادر المنفرد به أسود: أطفال يعتلون الخشبة كنجوم يضيئون القلوب بكلماتهم وآداءهم.
واللافت هذه المرة كان الحضور الرسمي الداعم للنائب الطرابلسي إيهاب مطر يرافقه الدكتور موسى العش للأمسية، في رسالة واضحة أنّ الثقافة تبدأ من حيث يُمنح الطفل فرصة التعبير.
و لم يكن وجودهما شكليًا، بل تأكيد على أنّ الاستثمار الحقيقي هو في الكلمة الصادقة والموهبة الناشئة.
رئيس المنتدى، الأستاذ ناصر الزعبي، افتتح بكلمة تحمل فلسفة المشروع فقال: المنتدى ليس مجرّد نشاط، بل رؤية تؤمن بأن الطفل، إذا ما أُتيح له فضاء حرّ، سيُبهرنا بصدق كلمته ونقاء صوته، وسيغدو حاملًا لراية الثقافة في زمن يحتاجها أكثر من أي وقت مضى.”
بهذا الإعلان، بدا واضحًا أنّ الأمسية لم تُبنَ على الأداء وحده، بل على مشروع ثقافي طويل النفس، يرى في الأطفال بذورًا لمستقبل مختلف.
خمسة عشر حلمًا صغيرًا
خمسة عشر طفلًا وطفلة، تتراوح أعمارهم بين الخامسة والثالثة عشرة، قدّموا لوحات من الإبداع:
قصائد صافية كالمطر،
زجل بلهجة دافئة،
نثر وجداني يلمس القلب،
وإلقاء عفوي يكشف ثقة تتخطى الأعمار.
كل مشارك كان نافذة صغيرة تُطل منها طرابلس والميناء على ذاتها. كأن المدينة استعادت شيئًا من طفولتها عبر هذه الأصوات النقية.
لحظة الوداع – دمشق وطرابلس في صوتين صغيرين
الختام حمل اللمسة الأكثر تأثيرًا، إذ صعدت الطفلتان حنين وأمل، ابنتا القاص والناقد فاروق موسى. الأولى غنّت لدمشق، لتعيد إلى القاعة رائحة الياسمين وظلال الشام القديمة. أما الثانية، فكتبت لطرابلس قصيدة امتنان، كأنها تخاطب البحر والشارع والحياة نفسها.
في تلك اللحظة، الكلمات كانت جسرًا إنسانيًا بين وطنين، بين وداع واشتياق. دمعتان صغيرتان سالتا على خدّ مدينة بأكملها.
الجمهور لم يخفِ انفعاله. التصفيق كان طويلًا، والتعليقات تكررت:
“لقد منحنا هؤلاء الأطفال درسًا في الإيمان بالذات، وفي جمال أن تُقال الكلمة بصدق.”
النائب مطر ألقى كلمة وجدانية، اعتبر فيها أنّ ما رآه لم يكن مجرد أداء، بل “مهارات كبيرة في أجساد صغيرة”.
وفي تحليله الأوسع، شدّد مطر على أنّ الثقافة ليست ترفًا، بل حاجة ملحّة ضمن ورشة عمل شاملة للمدينة، مؤكّدًا أنّ مسؤوليته كسياسي أن يقف إلى جانب المبادرات التي تحيي روح المجتمع، حتى وإن قصّرت الدولة في أداء دورها.
لم تكن الأمسية احتفالًا تقليديًا، بل فعل مقاومة بالحب والفن. حين يعلو صوت طفل في بيت الفن، فهذا يعني أنّ هناك مدينة ما زالت قادرة على الحلم. وحين يصفّق الجمهور لقصيدة بريئة، فهذا يثبت أنّ الكلمة تملك قوة تفوق صخب الخطابات.
ما بعد الأمسية، كتب منتدى أسود صفحة جديدة في سجل الميناء: أمسية لن تُقاس بعدد الحاضرين، بل بما زرعته من ثقة في قلوب الأطفال. أمسية تؤكّد أنّ الكلمة حين تُقال ببراءة تصبح جناحين يحلّق بهما المجتمع فوق عتمته.
لقد كان الأطفال أكثر من مؤدّين؛ كانوا رسلًا صغارًا يذكّروننا أنّ التنمية البشرية والثقافية ضرورة وأن المدينة التي تزرع في أبنائها حب الأدب والفن إنما تبني أعظم حصونها.
هكذا، غدا بيت الفن مرسىً للأحلام، وذاكرةً جماعية تقول: “هنا بدأنا… وهنا تعلّمنا أنّ للكلمة جناحين.”