في عالمٍ تتبدل موازينه الجيوسياسية بوتيرة متسارعة، تعود مشاهد الاستقطاب الحادّ بين القوى الكبرى إلى الواجهة، لكن هذه المرة بحلّةٍ جديدة تُحاكي تعقيدات القرن الحادي والعشرين. الصراع بين الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية الصين الشعبية لم يعد محصورًا في المنافسة الاقتصادية أو التقنية فحسب، بل تحوّل تدريجيًا إلى ما يمكن تسميته “الحرب الباردة 2.0” ـ تقود النظام الدولي إلى عتبة مواجهة شاملة ولكن غير تقليدية.
1- المحاور الساخنة: تمتد خطوط التماس الجيوسياسية من مضيق تايوان، حيث تُصعّد الصين من ضغوطها لإستعادة “الجزيرة المتمردة”، إلى بحر الصين الجنوبي، حيث تتشابك مصالح الأمن البحري الأميركي مع النفوذ الصيني المتصاعد. في المقابل، ترد واشنطن بتكثيف تحالفاتها في المحيطين الهندي والهادئ، من خلال استراتيجيات احتواء جديدة تشمل تحالفات مثل AUKUS، والرباعية الامنية (QUAD)، إضافة إلى تعزيز الشراكات العسكرية مع اليابان، كوريا الجنوبية، والفلبين.
2- الجبهة التكنولوجية: ساحة المعركة الحقيقية (الذكاء الاصطناعي، تقنيات الجيل السادس، المعالجات او الرقائق الالكترونية الدقيقة) باتت تُشكّل ساحات اشتباك حاسمة، حيث تحاول واشنطن تقييد وصول بكين إلى التقنيات الحيوية، عبر عقوبات على شركات مثل Huawei وSMIC، بينما ترد الصين بتعزيز الاكتفاء الذاتي الرقمي وتوسيع نفوذها التكنولوجي عبر مبادرة “الحزام والطريق” او ما يعرف بطريق الحرير..
3- الاقتصاد في قبضة السياسة: رغم التداخل التجاري بين الاقتصادين الأكبر عالميًا، ليكون “سلاح العقوبات، الحرب الجمركية، وقرارات فك الارتباط الاستراتيجي (Decoupling) ” من الأدوات اليومية في هذه المواجهة.كما باتت الأسواق الناشئة ـ لا سيما في إفريقيا وآسيا الوسطى وأميركا اللاتينية ـ مسارح استقطاب اقتصادي مزدوج، تتنافس فيها واشنطن وبكين على النفوذ والموارد والولاءات.
4- الحرب الرمادية… والتفوق في الفضاء: إلى جانب الحروب السيبرانية وحملات التضليل الإعلامي، تنتقل المنافسة اليوم إلى الفضاء الخارجي، حيث تُكثّف كل من أميركا والصين من إطلاق الأقمار الصناعية، وتطوير أنظمة الاتصالات والإنذار المبكر والردع الفضائي.
وتُترجم هذه الطفرة العسكرية الفضائية عبر تعزيز استراتيجيات الردع والهيمنة، ما يهدّد بحصول تصعيد غير متوقع في حال انهيار قنوات التفاهم أو الخطوط الحمراء.
5- الحلفاء الجدد… والتحالفات المتغيرة: بينما تسعى الولايات المتحدة إلى ترميم قيادتها الغربية عبر الناتو وشراكاتها التقليدية، تمضي الصين في تعزيز علاقاتها مع روسيا، إيران، ومجموعة BRICS، في إطار محاولة بلورة نظام دولي بديل يعيد صياغة مفاهيم السيادة والنفوذ.
هنا، تُطرح علامات استفهام كبرى حول مدى قدرة هذه الاصطفافات على منع الانزلاق نحو صدام أوسع، خصوصًا مع تصاعد الحروب بالوكالة في أماكن مثل أوكرانيا، بحر الصين والشرق الأوسط..!
خِتامَآ؛ لسنا اليوم في سباق تسلّح نووي على نمط خمسينيات القرن الماضي، لكنّنا بلا شك في سباقٍ للسيطرة على البنية التحتية للقرن الجديد… من المعطيات الذكية إلى مسارات التجارة العالمية.
إنّ “الحرب الباردة 2.0” ليست صراع أيديولوجيات بل صراع نماذج حكم، أنظمة سيطرة، ومنظومات معلومات.
ورغم ان سياسة الإحتواء من وسائل التبريد إلا ان التوازن العسكري الرادع يبقى سيد الموقف قبل أن يتحوّل أحد خطوط التماس الجيوسياسية إلى شرارة تُشعل مواجهة كبرى في “زمن ما بعد الحقيقة”..!
الكاتب: العميد منذر الأيوبي
عميد متقاعد؛ مختص في الشؤون الامنية والاستراتيجية
موقع سفير الشمال الإلكتروني