في غضون ثلاثة أسابيع فقط من إطلاقه في "نتفليكس"، تمكن مسلسل "Adolescence" (مراهقة) البريطاني من إثبات نفسه كأحد أنجح المسلسلات على الإطلاق، محققاً أكثر من 100 مليون مشاهدة منذ تاريخ صدوره في 13 آذار/مارس الماضي بحسب بيانات رسمية من "نتفليكس".
ولا يرجع هذا النجاح الباهر إلى الموضوعات الشائكة التي يطرحها المسلسل أو الأداء التمثيلي المتميز فحسب، بل إلى الأسلوب الفني الفريد الذي تم اعتماده في تصوير العمل بتقنية اللقطة الواحدة "One-Shot"، ما يخلق الإبهار الحقيقي.تتمحور قصة المسلسل حول مراهق يتهم بجريمة قتل، لكن المسلسل لا يتعامل مع الجريمة بوصفها حبكة بوليسية تقليدية، بل كنقطة انطلاق نحو رحلة نفسية واجتماعية معقدة، تسلط الضوء على العوامل البنيوية التي تؤدي إلى الانفجار العنيف لدى المراهقين، وهو ما حضر سابقاً في مسلسلات من إنتاج "نتفليكس" مثل "The End Of The Fucking World" قبل سنوات.
وتنطلق السردية من لحظة المداهمة الأمنية لمنزل الفتى، لتكشف تدريجياً، وعبر أربع حلقات متصلة زمنياً، شبكة من الوقائع الشخصية والاجتماعية من العزلة المدرسية إلى التنمر ثم تداعيات الجريمة على العائلة والمجتمع، كما يسائل دور المنصات الرقمية، مثل "إنستغرام"، في خلق عوالم متخيلة وقيم سطحية تؤدي في بعض الأحيان إلى العنف النفسي والاجتماعي، وهو ما يتجلى في إحدى العبارات اللافتة التي يقولها ابن المحقق لوالده: "أنت لا تفهم، أبي، ما الذي يحصل في إنستغرام، هناك كل شيء له معنى. كل شيء!".هذا التقديم لا يسعى لتبرير الجريمة، بل لتأطيرها ضمن سياقها النفسي والاجتماعي، من خلال السرد العلاجي، حيث تستخدم الوسائط السمعية والبصرية ليس فقط لنقل الوقائع، بل لفهمها على مستوى أعمق، ما يجعل المسلسل يتجاوز البنية النمطية للجريمة، ليتحول إلى دراسة درامية للتماهي والتهميش وإشكالية المسؤولية الفردية في ظل غياب البنية الحاضنة.والحال أن ما يميز المسلسل لا يكمن فقط في الموضوع، بل في الشكل، حيث يعتمد بشكل كامل على تقنية اللقطة الواحدة "One-Shot"، ليصور كل حلقة، ومدتها ساعة تقريباً، بلقطة واحدة متصلة، من دون أي قطع أو مونتاج داخلي. هذا الخيار الجمالي يتحول إلى أسلوب بنيوي، يعيد تشكيل العلاقة بين الزمن السردي والزمن الواقعي، فالمُشاهد لا يتابع الأحداث فحسب، بل يعيشها كما تقع، في زمن متطابق مع زمن القصة.وهنا، تغيب أدوات الإنتاج التلفزيوني التقليدية، التي تعتمد على تقسيم السرد إلى مشاهد قصيرة يتم تفكيكها، تصويرها، ثم إعادة تركيبها في غرفة المونتاج. أما في "Adolescence"، فلا وجود لمونتاج يصلح أو يجمّل، ولا فرصة لإعادة المشهد أو تعديل الأداء لأن الكاميرا تتحرك باستمرار ككائن حي وتنفعل مع الشخصيات وتلاحقها، لتتحول من أداة توثيق إلى عنصر درامي قائم بحد ذاته.وينتمي "Adolescence" إلى فئة "الدراما الحية المعاد إنتاجها"، وهي صيغة تجمع بين الطابع المسرحي في استمرارية الأداء، والتقنيات السينمائية في التحكم بالصورة والضوء والإيقاع، فيستعير من المسرح شرط الاستمرارية وعدم التكرار، ومن السينما يستعير تعقيد التكوين البصري والقدرة على التلاعب بالفضاء، ليبدو التلفزيون هنا وكأنه مجرد من أدواته المعهودة، ليعاد اختباره كوسيط بصري من جديد.ويبدو كل عنصر بصري أو سمعي، من حركة باب إلى دخول الممثل إلى توقيت الضوء، أشياء يجب أن تكون منسقة بدقة عالية، لأن أي خلل مهما كان بسيطاً، يحتم إعادة المشهد من بدايته. يجعل ذلك من كل حلقة ثمرة تدريبات جماعية تشبه البروفات المسرحية، حيث يتحول فريق العمل بأكمله إلى وحدة واحدة تدير الزمن الحقيقي كعرض مسرحي مصور، حيث أن الحلقة كاملة تعتبر "Master scene" لأنها تتطلب من جميع الممثلين أن يكونوا موجودين في اللوكيشين، حتى لو لم تكن الكاميرا تلاحقهم. في هذا النوع من البناء، لا يمكن الالتزام الحرفي بالنص المكتوب لذلك يمنح الممثلين هامشاً محسوباً من الارتجال، أشبه بما يعرف في المسرح بـ"الارتجال المنضبط"، الذي يسمح للممثل بالتفاعل الحي مع تطورات الأداء من دون الخروج عن الإطار الدرامي، ويشكل هذا النوع من الكتابة تحولاً في العلاقة بين النص والتمثيل، حيث لا يكون السيناريو خارطة مغلقة، بل هيكل مرن قابل للتفاعل مع اللحظة.وغياب المونتاج في" Adolescence" لا يعبّر فقط عن خيار تقني، بل عن فلسفة سردية، فكل لحظة تعرض كما هي، بكل توترها أو صمتها أو ارتباكها، ما يخلق إحساساً واقعياً مكثفاً لا مكان فيه للفصل بين الحدث وتمثيله، ويعاد إنتاج الزمن الدرامي كما هو ويصبح الزمن الواقعي للمشاهد جزءاً من التجربة. ما يضع المشاهد في موقع متداخل مع النص، لا خارجه.وهنا لا تستخدم التحولات المكانية داخل الحلقات كخلفيات بصرية فقط، بل كعناصر درامية فاعلة لأن الكاميرا تنتقل من المنزل إلى السيارة ومن الشارع إلى المدرسة بلا أي قطع، ما يستدعي تنسيقاً دقيقاً بين أداء الممثلين وحركة الكاميرا والإضاءة، ويضيف إلى تحدي التنقل مكانياً، جعلَ هذه الحركة جزءاً من البناء الدرامي ليصبح المكان جزءاً من سرديته.ويعد المشهد الختامي من الحلقة الثانية أبرز تجليات هذا الاستخدام، ففي لحظة مفاجئة، تنفصل الكاميرا عن الأرض، وتتحوّل إلى درون تطير فوق المدينة باتجاه موقع الجريمة، حيث يخرج والد الطفل القاتل من سيارته ليضع إكليلاً من الزهور في المكان الذي سقطت فيه الضحية. ويصبح الانتقال قفزة تقنية ورمزية، تنقل المشاهد من صخب المدرسة إلى صمت الحِداد، ومن الحدث إلى أثره.ورغم ندرة استخدام تقنية اللقطة الواحدة بسبب صعوبتها الفنية، إلا أن أعمالاً عديدة قدمت بهذا الأسلوب، أبرزها الفيلم الألماني Victoria 2015 والذي صُوّر بالكامل في لقطة واحدة على مدار ساعتين و18 دقيقة في شوارع برلين. كذلك فيلم "1917" العام 2019 الذي استُخدم فيه دمج ذكي للقطات طويلة ليبدو كأنه مشهد واحد متواصل. أما فيلم Birdman 2014 فاعتمد على مونتاج متقن لمحاكاة اللقطة الواحدة، بينما تم تصوير فيلم Russian Ark العام 2002 بلقطة واحدة حقيقية داخل متحف بمشاركة آلاف الممثلين.