2025- 04 - 30   |   بحث في الموقع  
logo بيان ترشّح إلى المجلس البلدي في طرابلس logo البلديات في لبنان.. تحديات وآمال (3).. بقلـم: د. عبدالرزاق القرحاني logo زحمة مرشحين في زغرتا.. إنتخابات بلدية تأسيسية لإستحقاقات لاحقة!.. حسناء سعادة logo عندقت تخطف الأضواء… ولائحتان تتنافسان!.. نجلة حمود logo توافق الثنائي يُجهض مسعى حشرهما في بيئتهما!.. عبدالكافي الصمد logo جبل النفايات:هل “للفيحاء” من حلول؟..  logo حريق كبير في الدكوانة.. هل من إصابات؟ logo جراء حادث سير مروع… وفاة جندي في الجيش (صور)
لُغة تعفينا من عَورات الآباء
2025-04-07 00:27:18

أنا حام يا أبي، أرى عَورتك حتى الاسوداد.يليق باللحظات التاريخية جلال اللغة، طوباويتها، مسح آلام الموجوعين فيها وعلى هوامشها بزيت القداسة والغفران. يليق بها مرور الزمن، ومعانقة الشعر والفلسفة، والاستماع مرارًا لنذير الأسطورة ومرثيات جميلات المعبد للبطل الملحمي الذاهب لحتفه. يليق باللحظات التاريخية تكللها ببهاء الوقت واتساع البرهات، فقد اقتضى اكتمال اللحظة السورية 14 عامًا عانت خلالها تحولات كابوسية وديستوبية فككتها، وأعادت بناءها بروية حينًا، وباعتباط وفوضى أحيانًا أكثر، حتى بدت اليوم، بعد ما حل بها من خراب، أكثر ارتباكًا وأقل يقينية من معظم ثوانيها خللًا وفجائعية، خصوصاً بعدما وصلت تلك اللحظة مبتغاها وحادت عنه. قد لا يعلم معظمنا مقادير الوصفة التامة لتجانس تلك اللحظة وما تتطلبه من عناصر لتكتمل وتحتل هوامشها كافة، لكننا بالتأكيد نعلم كل ما لا يلزم: نعي أننا لا نحتاج مزيدًا من العنف، من الطائفية، من التنازع، من الدماء، وحتماً ما لا يلزم على الإطلاق ارتكاب مجازر إضافية من الركاكة واللزوجة الخطابية.للحقيقة وجهان، قالها مرة شاعر مضيء كنجم، وفي قراءة تأملية لعمر مضى، قدم صديق ما اعتبره استخلاصًا لحياة لم تتوقف عن إفراز وقائعها، واعتبر الحقيقة فيها مجرد هدف متحرك. أهديت صديقي ذاك رواية بحالها، محاولة عبر لملمة مرضية للحكايات، خلق ثبات لغوي قد يعكر زئبقية وفرار الحقيقة من بين يديه ويدي، ولو لوهلة. للواقع أوجه، تقف اللغةُ فيه كفاعلٍ خفيٍّ في هندسة الحقيقة، وتكون الكلماتُ لا نوافذَ نطلُّ منها على الواقعِ فقط، بل عدسات بانحرافات بؤرية، أفقية، مشوهة المحور، أو مفتوحة على آخرها. تلعب اللغة دورها في اختراع الحقيقة أو إعادة تشكيلها، فحين نستسلم لموسيقى اللفظة، لعهرها، لغوايتها، نحن هنا لا نصفُ واقعًا موجودًا فحسب، بل نشاركُ في تشكيلِه، لتكون اللغةُ أداةَ خلقٍ، تصفُ العالم ونعيدُ تعريفه.ما بين "أهلًا بذنوبنا" و"فشرتو"، واللغة غير المحكية لشريط أسود في بنطال ساحل، يبقى العواء صوت عارنا الأكمل ونباح لغتنا البكماء.فالحقيقةُ السائلةُ في سوريا أتاحت للواقع أن يصير نصًا قابلًا لإعادةِ الكتابة، نصًا منفلتًا من رقابة سلطوية حُكمًا، لكنه للأسف منفلت من رقابة أخلاقية أيضًا. إن العسف والعنف والتحوير الذي تعانيه لغة الخطاب السوري الآن، يمتّ لحقائق وُلدت سفاحًا، بخلطات كراهية مصفّاة، "المؤسف فيها أنها لم تعد تفاجئ أو تجرح الوجدان كما ينبغي أن تفعل". لغة تلبست حقائق لم ينتجها الشارع بأوليته، بل أنتجتها غلواء المثقفين ضد الثقافة نفسها، في لعبة احتقار للذات وللآخر، بتركيبة عجائبية أتاحت التوهان في دوائر دهليزية الهدف والمبتغى، حقائق أنتجت مفاهيم لغوية تخدم القضية وعكسها. لغة لم تكن ساكنة كحجر، بل كتيار عالي التوتر والتدفق، متغير وفقًا للسلطةِ والسياق، حيث تبدو سوريا اليوم كمختبر لغوي نشط، يحجّم الحقائق، يعلّبها، يغلفها، يعيد هندستها وتصنيعها، حتى باتت تفر كهدف زلق بين مغدور وغادر، بين ضحية وضحية تشبهها ولطالما شابهتها.فقراء معدمون، يعبدون الله، ويُطلّون على الدين من زوايا الخلاف والكراهية والشقاق. ضحايا ربما، جلادون حتمًا، يحملون الدماء اتها، والكمال الجيني نفسه، وخلله أيضًا. يعيدون إنتاج ما حملوه من عنف على أجسادهم وفي حدقات عيونهم مضاعفًا، يعيشون معركةً لغويةً أيضًا، لا تقلّ شراسةً وعنفًا عن معارك الفجيعة والانتقام، معارك تنتج موتى لا يكفون عن التوالد، كما يتوالد الأشرار في الحكايا في بلد ممنوعة عليها النجاة.ليس جديدًا ولا مثيرًا للدهشة أن التاريخ لطالما تمت صياغته وفق خطاب القوة، وأن الكلمات أزاميلُ تنحتُ المعنى وتوجّه الإدراك، حيث في فضاءٍ تتنازعه الذاكرةُ والهوية، يبرز دور اللغة في صياغة السلم الأهلي. فاختزال التاريخَ في حكايةٍ أحاديةٍ بلا غفران ولا مكاشفة، سيُبقي اللغةَ ساحةً للحرب بين الذاكرات. انشطار التاريخ إلى رواياتٍ طائفيةٍ، سيُبقي الجرحَ مفتوحًا، فإن لم تكن اللغةُ إبرةً ترتق ما تمزق، ستكون حكمًا بحِدّة مقصلة.تبدو سوريا اليوم، بفوحان عارها الطائفي، وباقتطاع أراضيها إسرائيليًا وتركيًا، كمن يعيش فضيحة لا يعلم ما يُلبسها وعمّن يخفيها. الكل يشعر بالعجز والخجل، بينما تبدو سوريا أمام نفسها صورةً ما بعد حداثية: مفككة الحقائق، مرتبكة أمام انفجارِ الرواية. ففي تشابك المعتقد والرؤى، في قلب القلب، يقفُ السوريُّ، كفرد أو جماعةً، أمام سؤالٍ وجوديّ قدري: ما الحقيقةُ؟ وأيّ نص يستطيع تسليمَ عقله ووجدانه له، لا بل الوثوقَ فيه؟في قماشة وطن مزّقته الحربُ، يأتي اندلاق الحقيقةُ حتميًا، اندلاقًا سائلًا، متبدّلًا، متشظّيًا بين ذاكرةِ المنتصرين وذاكرةِ المنفيين وذاكرة الموتى. تنسكب الحقيقة كزيت رخيص بين الخطابِ الرسميّ ورواياتِ الضحايا، بين ما يُقالُ داخل البلادِ وما يُقالُ في المنافي. تبدو سوريا في لحظتها التاريخية الحرجة كمساحةٍ من الأنقاضِ الماديةِ والسياسيةِ، لكنها أيضًا أنقاضُ حقائقَ متنافسة، كلٌّ منها يحاولُ فرضَ تفاصيله على الآخر، وعلى المستقبل.لكن في واقع مفتوح للمعارك وللتأويل أيضاً، قد تكونُ اللغة وارتقاؤها في الفلسفة، والأدبُ، والسينما، والشعر، قد تكون اللغة وتسامحها، وغفرانها، ورقتها ومرانها، وحساسيتها في صباحاتنا وفي فعل العيش، هي السبيل لاستعادةِ صوت حقيقةٍ جامع تاه في زحامِ الخطاباتِ الخرقاء. قد يكون البحثُ عن الحكاياتِ الهامشية، القصصُ التي يرويها أب عن قلب ابنه، أو لاجئٌ عن خيبته، أو ناجٍ من مجزرةٍ عن رائحة حبيبته، هذه المرويات، بفرادتِها وتعدّدِ زواياها، قد تكون هي وحدَها القادرةُ على إعادةِ تشكيلِ مشهدٍ سوريٍّ أكثرَ اتساعًا من كلمات لزجة لخطيب ثقافةٍ رخو بليد. لغة خفورة تكف عن رمينا في عمق هاوية، وقد تعفينا ربما من النظر إلى عورات الآباء حتى الاسوداد خزيًا.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top