"فيا موت انتظرني ريثما أنهي تدابير
الجنازة في الربيع الهشّ حيث وُلدتُ"
(محمود درويش)
إلى ميشال سركيس
في حارتنا، كانوا يسمّونه "الكوزين" الأكبر (le grand cousin). وكانت براعم الأشجار الربيعيّة تتفتّح على وقع التسمية.
ما سرّ الاسم يا ترى؟ وما سرّ البراعم التي كانت ترتاح إلى هذا الرجل كأنّ سلكاً خفيّاً يمتدّ بين وريقاتها وبؤبؤ عينيه؟ لم يكن صديقنا طاعناً في السنّ أكثر من سواه. كان من الأكبر في جيله طبعاً. لكنّ سرّ الاسم الذي شغلنا، وخلع ومضات فرح على أويقاتنا المجروحة بالوقت، ما كان يكمن في العمر.
كان "الأكبر" بيننا، لأنّ السماء منّت عليه بموهبة لم تتسنَّ إلّا للقلّة العزيزة: أن يكون معنا كلّما احتجنا إليه من دون أن يضحي حضوره بيننا ثقيلاً؛ أن يعثر على الكلمات المناسبة حين يصبح وزن الكلام قنطاراً من ذهب؛ أن يصمت حين يكون الصمت بليغاً كسكوت الأشجار عندما تستقبل العاصفة؛ أن يسعى إلى الودّ بحكمة الحيّات كلّما كانت صغائرنا تطفو على سطح الحياة؛ أن يكون مستمعاً حين يشبه الاستماع رَقية جدّته لأمّه، مرناً حين تقول الغيوم إنّ المرونة هي الترياق، غفّاراً حين يصبح الغفران القاطر من صفحات الإنجيل أعجوبة الأعاجيب؛ أن يكون، بكلّ بساطة، محبّاً في كلّ شيء، وفي كلّ وقت.
هذه الصفات جميعها جعلت صديقنا يحفظ حكاياتنا عن ظهر قلب ويلمّ بتفاصيل أشيائنا، إذ كان يدرك أنّ الحياة تكمن في التفاصيل. كانت الحكايات مدخله إلى فهم العالم والغوص على أسرار النفس وكشف السرائر، حتّى إنّه صار، بمعنًى ما، ذاكرةً لحارتنا. حاول بعضنا إقناعه بكتابة الحكايات، أو باستكتاب مَن يستطيع أن يدوّنها، لئلّا تندثر. غير أنّ كثافة الحياة عنده كانت أقوى من الكتابة. أمّا إقباله على التفاصيل، وعلى تفاصيل التفاصيل، فجعله يلتفت إلى أدقّ الفوارق بين الألوان والروائح والمذاقات، حتّى تخاله شحذ عينيه لدى متصوّفة ترسم الأيقونات، أو درّب لسانه في بيت لصناعة النبيذ، أو وُلد في حقل من بيلسان وحبق.
كان "الكوزين" الأكبر يحبّ حارتنا حبّاً جمّاً. يؤمّها في الربيع من كلّ سنة كي يستدفئ هارباً من برد الشمال، وكي يكحّل عينيه بشقائق النعمان حين تتفجّر القيامة من بواطن الأرض.. ومن حجارة الكنائس. يأخذ وقتاً للصغير وللكبير، ثمّ يستنبط مفردات تليق بالصبيّة المغناج والأمّ الرؤوم والعجوز المحنيّة تحت مطرقة الشيخوخة. هناك، في الأرض القديمة، عاجله الموت من فرط ما كان يحبّ الحياة، وتناثرت الحكايات من بين يديه كأنّها "ضياء مصابيح تناثرن من شُعَل"، كما أنشد ذات يوم جدّنا ومعلّمنا امرؤ القيس الكنديّ. ومع تناثر الحكايات، انكسرت أحلامنا بأسفار معه لم نخضها، وبزيت زيتون من خابيته لم نتذوّقه، وبأحاديث في حضرته لم نتجاذب أطرافها.
لعلّ صديقنا اليوم يجدّ الخطى نحو بلدة جديدة سال النُضار بها وتسيّد فيها قوس قزح. أمّا نحن الأحياء، فنلتقط الفراغ بأصابعنا، ونبكي على موته بكاءً مرّاً.