في خطوة جديدة على الدراما السورية، يؤدي الممثل السوري حسام سلامة في مسلسل "تحت سابع أرض" شخصية سيل (سوسو) التي حتى لو لم يصرح القائمون على العمل بشكل مباشر عن ميوله الجنسية، فإن طريقته في الحديث وأسلوبه في التعبير ولغة جسده، إضافة إلى اسم الشخصية، تشكل إشارات توحي بأن المخرج سامر البرقاوي أراد تقديم شخصية مثلية الجنس بطريقة غير مباشرة، بعيداً من التنميط التقليدي الذي لطالما هيمن على هذا النوع من الشخصيات في الإنتاجات العربية.
ولا يظهر سوسو في المسلسل كشخصية مضطهدة خائفة من انكشاف هويتها، أو محاصرة بنظرة المجتمع، ولم يتم تقديمه على أنه شخصية هشة تخفي هويتها خلف تصرفات ذكورية مصطنعة. بل على العكس، بدا قوي الشخصية، حاد اللسان، ويمارس دوره في عمليات غسل الأموال من داخل متجر بلقيس (كاريس بشار) بثقة وجرأة، تماماً كما تفعل أي شخصية أخرى في المسلسل، ما يعكس تحولاً في طريقة تقديم الشخصيات مثلية الجنس، من دون تصويرها كضحايا أو كأشخاص يراد لهم إثارة التعاطف أو التجريم.لا معاناة كبرى ولا قهروتمثل هذه المقاربة نقلة نوعية في الدراما السورية التي لطالما حصرت الشخصيات المثلية بين خيارين، فإما أن تظهر كشخصيات مكسورة، تائهة، ومقهورة، تخشى نظرات الآخرين وتعيش في رعب دائم من اكتشاف حقيقتها خوفاً من الوصم الاجتماعي، مثل شخصية نور التي قدمها الممثل مصطفى سعد الدين في مسلسل "قلم حمرة" للكاتبة يم مشهدي والمخرج الراحل حاتم علي... أو كشخصيات تحمل عبء تسليط الضوء على القمع المجتمعي، لتكون وظيفتها الأساسية في العمل مجرد تمثيل لمعاناة المثليين، وأحياناً الكوميديا!هذه المعالجة ليست شائعة فقط في الدراما العربية، بل حتى في الإنتاجات العالمية التي غالباً ما تنظر إلى الشخصيات المثلية من زاوية المعاناة أو الصراع مع المجتمع، في حين أن بعض المسلسلات الحديثة بدأ يتجه إلى تقديم المثليين كشخصيات مستقلة لا تكون حياتهم محصورة في إطار الدفاع عن هويتهم.وقدم النموذج سابقاً في أعمال عالمية حديثة، كالمسلسل الأسترالي "Heartbreak High"، الذي عرض شخصيات مثلية مراهقة في مدرسة ثانوية، لا يتم التطرق إلى ميولها كقضية تحتاج إلى شرح أو تبرير، بل كشخصيات عادية، لها همومها ومشاكلها، ضمن سياق العمل ككل. ويبدو أن مسلسل "تحت سابع أرض" يطرح شخصية سوسو كجزء من النسيج الاجتماعي السوري، من دون أن يجعلها موضوعاً جدلياً. بالتالي، لا يتم التعامل مع الشخصية باعتبارها كياناً استثنائياً يحتاج إلى تفسير، بل كفرد فاعل في قصة غسيل الأموال التي يدور العمل حولها.ولطالما كان طرح الشخصيات المثلية في الدراما، حتى في المسلسلات الأميركية، انعكاساً لتطور المجتمع وتحولاته الثقافية، وكان ظهور هذه الشخصيات محصوراً في الدراما الليلية الموجهة للبالغين، دون الأعمال الاجتماعية التي تستهدف الجمهور العائلي. لكن العام 1981 شكل نقطة تحول مع عرض المسلسل الأميركي "Dynasty"، الذي أحدث نقلة نوعية بكونه من أوائل المسلسلات التي قدمت شخصية مثلية الجنس في وقت ذروة المشاهدة.وينتمي "Dynasty" إلى فئة "Soap Opera"، التي تركز على التفاعلات الاجتماعية والعائلية، وقدم شخصية "ستيفن كارينغتون" كأول شخصية مثلية علنية، ما مثل خطوة متقدمة نحو دمج الشخصيات المثلية في السرد التلفزيوني السائد، بدلاً من حصرها في أعمال موجهة لفئات محددة من الجمهور مثلاً، وذلك بعد عقود من النضال من أجل حقوق مجتمع الميم في الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة.ولا يقتصر طرح شخصية سوسو في "تحت سابع أرض" على كونه خطوة درامية جريئة في مجتمعات تجرّم المثلية ضمن قوانينها المحلية وتفرض قيوداً صارمة على تمثيلها في الإعلام. بل يعكس تطوراً أعمق في السردية البصرية العربية، حيث يتم التعامل مع التنوع بعيداً من الخطابات النمطية المعتادة، لكن الامتناع عن التصريح الواضح بميول الشخصية ربما يفسر أيضاً على أنه محاولة لتجنب مواجهة ردود الفعل العامة والخضوع لسطوة الرقابة التلفزيونية ويقلل أيضاً من فرص عرض العمل على منصات او تلفزيونات معينة، ما يطرح تساؤلاً حول جدوى وجود الشخصية إذا كانت هويتها لا تؤثر في مجريات الأحداث بأي شكل.وفي هذه الحالة، ربما يبدو الطرح سطحياً أو بلا معنى، حيث تصبح الشخصية مجرد عنصر إضافي لا يقدم ولا يؤخر في تطور القصة، بدلاً من أن تشكل انعكاساً لحقيقة اجتماعية، علماً أنه ليس من الضروري أن يكون سوسو مثلي الجنس، لأن ما يميزه هو خروجه عن الصورة النمطية للرجل الشرقي كما اعتادت الدراما السورية تقديمها. فهو لا ينتمي إلى نموذج "الرجل القوي المتسلط" ولا إلى صورة "الرجل المحافظ"، ولا حتى إلى شخصية "الرجل المقهور" التي ظهرت أحياناً في بعض الأعمال.لغة الجسديحيل ذلك لضرورة التفريق بين الميول الجنسية وبين لغة الجسد وأسلوب الحديث، وكيفية تعبير الشخصية عن نفسها وصولاً للسيولة الجندرية. ففي المجتمعات التي ترسم معايير صارمة لما يجب أن يبدو عليه الذكور والإناث في طريقة الحديث والحركة والتفاعل، يصبح الاختلاف في التعبير الجسدي أو الصوتي سبباً للتنمر والرفض، بغض النظر عن الهوية الجنسية الفعلية للفرد، والمسلسل ربما يقع حتى في فخ تقديم صورة نمطية للمثليين كأصحاب سلوك ناعم، رغم أن ذلك ليس دقيقاً أيضاً.وكثير من الرجال مغايري الجنس قد يتعرضون لهذا التنميط لمجرد امتلاكهم لغة جسد تصنف وفق الأعراف الاجتماعية على أنها "ناعمة" أو "أنثوية"، رغم أن هذه السمات لا ترتبط بالضرورة بميولهم الجنسية. ومن هنا، يبدو سيل كشخصية لا تثير الجدل بسبب هويتها، وإنما بسبب تجاوزها للصورة التقليدية للرجل، ما يجعل وجوده في المسلسل خطوة جديدة في إعادة النظر في المفاهيم الاجتماعية المتوارثة حول الذكورة والتعبير عن الهوية الفردية.والحال أن المسلسل واحد من أحدث الإنتاجات الدرامية السورية للعام 2025، وهو من تأليف الكاتب السوري عمر أبو سعدة وإخراج سامر البرقاوي، ويشارك في بطولته النجمان كاريس بشار وتيم حسن إلى جانب أنس طيارة ومجد فضة وجوان خضر ورهام القصار، وتم تصويره في مدينة دمشق. وتتمحور قصته حول الصراعات المعقدة لعالم الفساد والجريمة، بشكل تبدو فيه الحياة أقرب للديستوبيا، وتتوغل في خفايا العلاقات العائلية والسلطة والنفوذ، والفروق الطبقية.وتدور أحداث المسلسل حول شخصية "موسى"، ضابط ذو نفوذ واسع، وشخصية طيبة، تدفعه الأحداث ليستغل سلطاته لتحقيق مكاسب شخصية بطرق ملتوية، مما يدخله في صراعات متشعبة مع أشخاص يسعى إلى ابتزازهم. ويجد موسى نفسه في مأزق أكبر عندما يكتشف أن شقيقيه متورطان في عمليات تزوير وغسيل العملات، فيجبر على اتخاذ قرارات مصيرية بين تركهما يواجهان مصيرهما المحتوم أو الدخول في اللعبة القذرة لحمايتهما. وبينما يحاول التلاعب بالأمور لصالحه، تتعقد الأحداث، لينكشف عالم مليء بالمؤامرات والخداع والمواجهات القاتلة.ولا تقتصر قوة العمل على الحبكة المشوقة التي تمزج بين التشويق الدرامي والبعد الاجتماعي والتعقيد النفسي، بل تمتد إلى العناصر البصرية والسمعية التي تمنح المشاهد تجربة غامرة، تنقله مباشرة إلى عالم الشخصيات وتجعله يتماهى مع هواجسها واضطراباتها الداخلية.كاميرا قلقة.. وسينماويستخدم المسلسل لغة سينمائية متوترة تعكس صراعات الشخصيات النفسية من خلال الكاميرا القلقة، التي تتحرك باستمرار بين الارتفاع والانخفاض، وكأنها تعكس اهتزاز ميزان القوى في المشهد. وتتبع العدسة نظرات الشخصيات بحدة تارة وببطئ وتمايل هادئ ومثير للقلق وتتنقل بين زوايا ضيقة وخانقة حين تحتد المواجهات لتقدم المشهد من زوايا استثنائية، ما ينمح المشهد قوة بصرية تضاعف من أداء الممثل عشرات المرات، ثم تعود إلى لقطات واسعة تمنح مساحة للصمت والتوتر لينمو بين الشخصيات.وفي بعض المشاهد، يبدو تحرك الكاميرا وكأنه ينبض مع تصاعد الصراع الداخلي للشخصية، أو ما تفكر به، ما يعزز الشعور بالتحايل والمراوغة بين الأطراف المتنازعة، ويجعل الحوار أكثر من مجرد كلمات تُنطق، بل موازنة مستمرة بين القوة والخضوع.إلى جانب التصوير، تلعب المؤثرات الصوتية دوراً حاسماً في ترسيخ أجواء المسلسل، فلا تكتفي بمرافقة الأحداث، بل تتحول إلى أداة أساسية لنقل الحالة الذهنية للشخصيات. في مشاهد الهذيان أو القلق النفسي أو العمى المؤقت الذي يصاب به موسى (تيم حسن)، تتداخل الأصوات بشكل مموه، تمتزج الضوضاء بالهمسات المكتومة، فيتحول المشهد السمعي إلى انعكاس مباشر لحالة التشوش التي تعيشها الشخصيات.هذه المعالجة تجعل المشاهد لا يكتفي برؤية اضطراب الشخصيات، بل يشعر به ويكاد يسمعه ويتنفسه، وكأنه يختبر بنفسه الهواجس والهلوسات التي تطاردهم. هنا، لا تصبح الموسيقى مجرد خلفية، بل تتحول إلى راوٍ خفي للأحداث، توجه الإحساس بالمشهد، فتحدد ما إذا كان يبعث على التوتر، التأمل، أو القلق، مما يمنح التجربة البصرية بعدأً سمعياً أكثر عمقاً وتأثيراً.أما الإضاءة، فتظهر كعنصر بصري محوري في المسلسل، ليس فقط عبر الإضاءة المباشرة الموجهة نحو الممثلين، وإنما من خلال الضوء المحيط الذي يتحول إلى جزء من المشهد ذاته. المصابيح الجانبية، إنارة الطرقات، لافتات المحلات، والأضواء المنعكسة من الشوارع المزدحمة، وإنارة المطاعم أو المقاهي في الخلفية الضبابية، كلها تساهم في تشكيل بيئة درامية تنبض بالحياة، حيث يبدو المشهد وكأنه ينبثق من لوحة سينمائية مشبعة بالتفاصيل مع كامل التركيز على الشخصية.واللافت أن حتى الأماكن المهترئة التي تحمل ملامح الفقر والبؤس لا تبدو كئيبة، بل تصبح أكثر جاذبية بفضل التوظيف الذكي للضوء والظل، ليبدو المشهد أشبه بكرنفال بصري يرافق المشاهد طوال الحلقة، يضفي على العمل طابعاً سينمائياً، ويخلق تناقضاً مقصوداً بين الجماليات البصرية وقسوة الواقع.