2025- 11 - 16   |   بحث في الموقع  
logo وزارة الداخلية تصدر بياناً هاماً logo بشأن السلامة المروريّة.. هذا ما طلبهُ وزير الداخليّة logo انطلاق انتخابات “نقابة المحامين” في بيروت logo قوى الأمن توقف أباً متحرّشاً بأبنائه logo بالصّور: "اليوم الطبّي" في طرابلس بالتعاون مع اليونيفيل logo تحرّش بأولاده وعنّفهم… وهذا كان مصيره! logo حيدر: الشباب ركيزة الوطن وسوق العمل للبنانيين أولا logo حسن خليل يلتقي عراقجي
"مجمع الكرادلة"... سياسة في الفاتيكان
2025-01-29 11:25:59

بعد وفاة البابا الأعلى بشكل غير متوقع، يُعيّن الكاردينال لورانس لقيادة واحدة من أكثر الطقوس سرية وقدماً في العالم: انتخاب بابا جديد. عندما يجتمع أقوى زعماء الكنيسة الكاثوليكية في أروقة الفاتيكان، يجد لورانس نفسه متورطاً في مؤامرة معقدة أثناء كشفه عن سرّ يمكن أن يهز أسس الكنيسة."مجمع الكرادلة" Conclave، العمل الجديد للألماني إدوارد بيرغر، فيلم إثارة سياسية متنكّر في هيئة دراما دينية. يجرّد بيرغر الطقوس من جدّيتها ليكشف عن لعبة قوة/سلطة حيث يذوب الإيمان في مواجهة الطموح. يعيد الألماني كتابة نوع الدراما الدينية من خلال فيلمه، الذي ينتظم رحلة مظلمة في الممرّات السرّية للفاتيكان. الفيلم عبارة عن آلة للدقة السردية، مثبتة في تلك المنطقة الحدودية حيث يجتمع المقدّس والدنيوي، في مساحة تفاوضية حيث تصبح الطقوس استراتيجيات ويصبح الإيمان تلاعباً سياسياً.لقد مات البابا. ولذا يتعيّن على مجمع الكرادلة انتخاب بابا جديد بواسطة المجمع المغلق، وهو تقليد متوارث منذ العام 1179. هذا الطقس السرّي يحضر هنا ليس كمجرد عملية خلافة، بل كعالم مصغّر يكثّف كلّ التوترات في عالمٍ لا يمكن اختراقه، تتقاطع فيه نزاعات أيديولوجية وطموحات شخصية ومواجهة مستمرة بين المحافظة والتقدمية. الكاردينال لورانس (رالف فاينس) مسؤول عن تنظيم الحدث. هذه الشخصية الغامضة هي نقطة التلاشي التي تتكشّف منها الحبكة. لورانس ليس مجرد بيروقراطي كنسي، بل مقياس تناقضات مؤسسة أصبحت ساحة معركة دبلوماسية. موضوع يعبره أزمة وجودية ومؤسّسية. شكوكه أقل لاهوتية منها سياسية: كيف ندير مؤسسة عمرها ألف عام عندما يبدو أن أسسها تنكسر مع كلّ انكشاف لأسرارها؟ستانلي توتشي، في دور الكاردينال الأميركي بيلّيني، يمكن أن يكون رئيس حملة سياسية. حواراته عبارة عن طعنات لفظية تقدّم بأناقة المارتيني. "سأكون ريتشارد نيكسون الباباوات". بالنسبة إلبه، التقليد ليس متعارضاً مع حداثة خفيفة معيّنة. محاكاة للتحوّل، تغيير شيء ما بحيث لا يتغيّر شيء. يمثل بيلّيني فكرة الليبرالية التي تعمل من أعماق بنية شديدة المحافظة: إنها أعراض مؤسسة عتيقة تحاول تجديد نفسها دون تحويل دفّتها تماماً. يقدّم سيرجيو كاستيليتو النقطة المضادة في دور الكاردينال الإيطالي تيديسكو، ممثل اليمين الكنسي الذي يسعى إلى استعادة النظام المفقود، ليكون مخلصاً للكتاب المقدّس. هناك مرشّحون آخرون يجب الانتباه إليهم أيضاً، مثل الكاردينال النيجيري آديمي (لوسيان ميساماتي)، الذي قد يصبح أول بابا أسود - نصرٌ ظاهري للتقدّميين، تقوّضه آراؤه الرجعية الوحشية في حقوق المثليين. ثم هناك مرشّح رجل التقى بالبابا قبل وفاته، الكاردينال الكندي تريمبلاي (جون ليثغو)، والوافد الجديد الغامض من كابول، الذي رُقّي سرّاً، الكاردينال اللاتيني بينيتيز (كارلوس دييز).
يقدم بيرغر ـ بعد نجاح فيلمه الحربي "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" (2022) ـ عملاً بصرياً لافتاً حيث يمثل كل إطار بياناً سياسياً. يعمل الفيلم كفيلم إثارة سياسي، تتحرّك الكاميرا مثل صحافي متخفٍ، فتكشف أن بهاء الفاتيكان يفيض بأعطابٍ أسفله، وأن قلبه قذر مثل قلب وول ستريت. لا يبني المخرج الألماني التوتّر من خلال لحظات درامية عظيمة، بل عبر تراكم أمزجة. يتنفس الفيلم في الفجوات، في تلك المساحات حيث لا تكون القوة استعراضية، بل تمارس في مفاوضات صامتة. وهنا، تكون السياسة الواقعية عبارة عن تسريب معلومات، وتحالفات، وهمهمات، ونظرات.في "مجمع الكرادلة"، تصبح الانتخابات البابوية عملية جبرية، حيث يصبح كل صوت ناقلاً للقوى وكل مرشّح فرضية يجب التحقّق منها. الطقس حسابٌ، والسرّ المقدّس استراتيجية. ولكن الفيلم يوحي بأن وراء هذه الآلية شيء يفلت من كل تخطيط: إنه شيء لا يمكن التنبؤ به. سيناريو بيتر ستروغان يلعب باستمرار على هذا التوتر بين العقلاني والعشوائي. حيث يُقدّم الكرادلة باعتبارهم رعايا أرضيين ـ بتفاهتهم وطموحاتهم وصراعاتهم الداخلية ـ وفي الوقت نفسه باعتبارهم حاملي مهمّة تتجاوزهم. إنهم بيروقراطيو المقدّس.الإخراج المسرحي يعمل في تلك المنطقة من الاحتكاك بين الروحاني والدنيوي. الألوان الحمراء للكرادلة، والطقوس القديمة، والاحتفالات، تتعايش مع معالجة أنثروبولوجية شبه وثائقية. لا تقديس، ولا ازدراء أيضاً، بل وجهة نظر مادّية: وجهة نظر تدرك أن الأسطورة لا يمكن فهمها إلا من منظور استراتيجي. الأمر لا يتعلّق بالحكم، بل بالفهم؛ لا يتعلق بإدانة، بل بتفكيك الآلية التي تدير معتقدات ملايين الناس. الكشف النهائي ــ وهو تحوّل سردي مستوحى مباشرة من حلقة من مسلسل The Twilight Zone ــ لا يعمل كصدمة بقدر ما يعمل كتأكيد لمنطق عدم اليقين الذي يلفّ الفيلم بأكمله. إنه ليس مجرد أداة تشويق، بل بيان حول الطبيعة الطارئة لأي عملية سلطة.وفيما تعيش المؤسّسات الدينية حالة من الأزمة الدائمة، يقترح الفيلم تأمّلاً في عجز الهياكل عن معالجة تناقضاتها البنيوية. والفيلم، في النهاية، تصوير بالأشعة السينية للشكّ. ليس الشكّ في وجود الربّ، بل شيء أكثر تعقيداً: الشكّ كطريقة للمعرفة، كأداة سياسية، كموقف أخلاقي. وفي عالم ثنائي وغير مستنير على نحو متزايد، حيث تتخذ الآراء صفة اليقين الذي لا يقبل الجدل، يقترح بيرغر العودة إلى الشكّ الديكارتي كمساحة للانفتاح.بهذا المعنى، "مجمع الكرادلة" ليس دراما دينية تخديرية أو حتى تحذيرية، بل حلبة ملاكمة حيث تتقاتل التقاليد والتقدمية من أجل إيمان جزء من العالم. مَن الذي يختار البابا حقاً؟ الكرادلة؟ الهياكل المؤسسية؟ الروح القدس؟ أم الطوارئ والاحتمالات، تلك المشيئة الإلهية التي تسكن كلّ عمليات صنع القرار؟ يُظهِر الفيلم أن السياسة ــ سواء في البرلمان، أو أحد البنوك، أو الفاتيكان ــ ستظل دائماً عرضاً واقعياً تافهاً ومثيراً للاهتمام.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBAANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top