بينما ينغلق قوس حياة سمير غانم، المبهرة، تنفتح سيرته على الأعاجيب: السياسة الدولية، والصراع العربي- الصهيوني، والنكسة والاستنزاف، وتحولات الاقتصاد العالمي، والعالم الذي يضيق إلى حد التلاشي، ومقاومة الألم بالقهقهة، ويغلف كل هذا طاقة، فذة، لمصمصة الحياة.
لكل هذ؛ وأكثر منه، يضيق عنه الوقت، يمنعنا حضور سمير غانم؛ المستمر، في حياتنا من الإسراف في الحزن على وفاته، والمدهش أن رحيله ينبهنا إلى الأثر العميق، وربما المبهج- نعم، المبهج- لجردة سريعة تستحضر نحو ستة عقود كاملة.مدخله إلى عالم الفن برفقة، جورج سيدهم، والضيف أحمد، تحت لافتة "ثلاثي أضواء المسرح" يتفرع منه ملمح يبدوغريبا، فقد نتوهم، مثلا أن لكلمة "ثلاثي" هذه، صلة تناص، فقط، مع "فرقة الثلاثي المرح"، الفرقة الغنائية المصرية شهيرة، المكونة من ثلاث مغنيات، ونشطت بين عامي 1958- 1967، وتميزت بأعمالها الاجتماعية الخفيفة، لكننا لن نعدم من يسحب أمر التناص إلى لفظه الروسي المقابل: الترويكا، وهي في الأصل "عربة خفيفة تجرها ثلاثة جياد"، لكنها أصبحت مصطلحاً سياسياً دالا عقب وفاة ستالين (1953)، حين شرعت القيادة السوفيتية في تبني خيار القيادة الثلاثية، بديلا عن القيادة الفردية للزعيم المطلق، وفاض المصطلح خارج توازنات القيادة السوفيتية (قيادة الحزب، ورئاسة اتحاد الجمهوريات، ورئاسة الوزراء)، بدعوة خروتشوف (عام 1960) إلى إصلاح الأمم المتحدة بحيث يتولى ثلاثة أشخاص منصب السكرتير العام، بديلاً عن واحد، ومن وقتها بات وجود ثلاثة مسؤولين عن القرار في أي هيئة، أو شركة، أو كيان، يسمى ترويكا، وحاليا يشير إلى ما هو أعمق في الهيئات الدولية والسياسية، فمثلا في الاتحاد الأوروبي يشير إلى الرئاسة السابقة والحالية والمقبلة للجانه، ما يعني التواصل والاستمرارية، ودلالة لسيرورة الزمن: الماضي، والحالي، والمقبل.
العقل الذي ولف الثلاثي كان المخرج محمد سالم، انتقاهم وقذف بهم إلى مختلف مجالات الفن. الثلاثة كانوا قد برزوا في المسرح الجامعي، واختاروا قالب "الاسكتش"، وملامح طفيفة من الكوميديا دي لارتي (كوميديا الارتجال أو الكوميديا الايطالية)، ومن مميزات الاسكتش، الذي يعني مشهد أو قطعة مسرحية ذات أبعاد صغيرة، بصفة عامة ذات صبغة كوميدية، ويستغرق ما بين دقيقة لعشرة دقائق ويكون ارتجاليًا، أنه يشتغل على الآني من الحياة اليومية، والذي يحظى بقدر عال من الاهتمام الجماهيري فيسخر منه، ولذلك ينسلخ الاهتمام به سريعا، فهو آشبه بماكنة هائلة تريد الجديد كل لحظة.
اللحظة المصرية، وربما العربية، عندما قذف سالم بالثلاثي إلى الحياة الفنية المصرية كانت لحظة نشوى مفرطة، إنني في عام 1963، وفيه قدم سالم فيلمين: "القاهرة في الليل"، في أغسطس/ آب، وهو أول فيلم مصري ينتجه القطاع العام، وبعد شهرين قدم "منتهى الفرح"، قد يكفي الاسم، لكن المشهد الافتتاحي أكثر دلالة: "الشركة العامة للانتاج السينمائي العربي تقدم، ثم يظهر طفل صغير يجرى عابرا شارع في وسط المدينة حاملا بضع نسخ من جريدة المساء، ويصيح: أبطال اليمن، أبطال اليمن، ويظهر العنوان الرئيسي "المناشيت": استقبال الأبطال.. عبد الناصر وبن بلا يشتركان..."، الأعمق في دلالته الحشد الهائل من المطربين والممثلين، يكفي وجود فريد الأطرش وعبد الوهاب معا. كل هؤلاء يحتفلون بعودة الجنود المصريين منتصرين من اليمن.
في الفيلمين تظهر بعض معضلات "الترويكا" الطبيعية، المنطقية، المفهومة. عرفنا أنه في الأصل هناك عربة خفيفة تجرها ثلاثة جياد، ومن المنطقي أن تتفاوت قدرة التحمل والعطاء، مع الثلاثي الذي يبدأ خطوات سباقه الأولى هناك حساسيات منطقية، ثلاثة أسماء فمن يٌكتب أولا؟ سالم، العقل الموجه، وضع سمير أولا في الفيلم الأول، وجورج في الثاني، ظل الضيف في المؤخرة، في أغلب الحالات.
بعد أربع سنوات من "منتهى الفرح" تحدث النكسة- هزيمة 5 يونيو المدوية- ويبدو أن السلطة رأت أن المزاج العام يحتاج "الفرفشة"؛ الكثير منها، في الواقع، وليس بعضها، وهكذا ظهرت "فوازير رمضان" بعد ستة أشهر من النكسة، ودخل الثلاثي كل بيت مصري به تلفزيون، يوميا، لشهر كامل، وهم يدعونهم لـ "الفرفشة". كان انتقال الفوازير من الإذاعة للتلفزيون بمثابة إعلان نهائي على نهاية عصر وسيادة آخر.
في الفوازير تظهر كل سمات كوميديا "الثلاثي"؛ فمثلا جورج يبرع في أداء نسخة شائهة من شهرزاد عصرية، وهو بالإضافة إلى سمير أكثر ممثلين لعبا أدوارا نسائية مضحكة.
كان الحضور الثاني الأكثر تأثيرا في انتشار جماهيرية الثلاثي هي حفلات أضواء المدينة، حيث يقدمون لنحو نصف ساعة عددا من الاسكتشات، ثم أن سالم جمع بعضها وصنع منها مسرحيات.
وبعيدا عن الثلاثي؛ لكن اتصالا أكثر دلالة بسياق هذه القراءة، قاد محمد سالم الجانب الفني مما يعرف بالتغطية الماهرة لإحدى عمليات المخابرات المصرية، أي ضرب الحفار الإسرائيلي في أبيدجان– وهو ميناء في ساحل العاج على المحيط الأطلسي- من خلال تصوير بعض مشاهد فيلم "عماشة في الأدغال"، عام 1968.
وكان 1970 عام تحول كبير، هائل، ومفجع، أيضا. صعد الثلاثي من الأدوار المساعدة والثانوية إلى أدوار البطولة، في ذلك العام ظهرت أسماؤهم في أعلى "الأفيش"؛ في فيلم "لسنا ملائكة"، وكان الترتيب فريدا، جورج، ثم الضيف، وأخيرا سمير، وأثناء التصوير توفي الضيف، وأحتال المخرج ليكمل العمل. رحل الضيف وبقت الفرقة المسرحية تحمل العنوان نحو عقد من الزمن، لكن الفراق بين جورج وسمير كان حتميا، وكانت الفوازير السبب، فقد عمقت الفوازير التي قدمها سمير؛ من تأليف عبد الرحمن شوقي، وإخراج فهمي عبد الحميد لثلاثة مواسم متوالية (1982- 1984) الافتراق، بقدر ما رسخت نجوميته، بعيدا بمسافة ملحوظة عن رفيقه.
أمتلك سمير الكثيرة من الجراءة، تخلى عن النظارة الطبية، ووضع باروكة، ظلت فاحمة السواد حتى لحظة ظهوره الفني الأخيرة؛ قبل أيام من وفاته، وظل يطلب العمل، ويسعى إليه أينما توفر، وكيفما توفر، يريد أن ينهل كل ما هو ملك يديه وفي قدرته، كمثال مذهل على معاركة الحياة وملاعبتها.
في سماته الفنية اشتغل، سمير غانم، على ما لا لم يطرقه إلا نادرا الممثلون الكوميديون المصريون: مزيج خاص من كوميديا الجسد المشذبة، والارتجال المنضبط. عملان يمثلاانه جيدا؛ أكثر من أي عمل آخر قدمه: مسرحية "موسيكا في الحي الشرقي"، وهي تمصير بارع لفيلم "صوت الموسيقى"، وفوازير "فطوطة". في بعض الأفلام يظهر لدقائق معدودة، ينطق بضع كلمات، فيشيع قهقهة متواصلة، في فيلم "عالم عيال عيال" (1976) يظهر لنحو ثلاث دقائق فقط لا تتوقف قهقهة المشاهد خلالها. عشرات من هذه اللحظات المنفلتة من أي تحديد نقدى تظهر فرادة أداء سمير غانم. في مشهدين، يستغرق كل واحد منهما حوالي عشر ثواني، يرقص سمير رقصتين: الأولى في فيلم "أميرة حبي أنا" (1975)، والثاني في مسلسل "ميزو" (1977)، يقدم سمير غانم فيهما ملمحا مكثفا لخصوصية أدائه.
كان ظهوره الأخير في إعلان تلفزيوني يشارك فيه ابنته الصغرى، إيمي، لبضع ثواني، كأنه يقول سأظل أمصمص الحياة حتى ما بعد النهاية، بحثا عن تلك القهقهة التي وإن لم تفلح في منع الموت؛ فالعالم ما بعد كورونا أضحى محدودا لحد التلاشي، فعلى الأقل تجعل ملاقته ميسرة.