مجدداً، تبدو كمية الوقاحة التي يتعامل بها نظام الأسد إعلامياً ودبلوماسياً عند تناوله لموضوع السوريين الموجودين خارج البلاد، لا تصدق، ليس فقط عبر دعوتهم للمشاركة في العرس الديموقراطي الحالي المتمثل بالانتخابات الرئاسية المحسومة سلفاً لصالح الرئيس بشار الأسد، والمفتقدة للشرعية الدولية، بل بنزع صفة اللجوء عنهم وتقديمهم كمهاجرين ومغتربين.
ولم يكن من المفاجئ تماماً ألا ترد كلمة لاجئين في الخطاب الإعلامي الأسدي الخاص بالانتخابات الرئاسية الحالية على الإطلاق، لأن النظام يستثمر في قضية اللاجئين منذ سنوات متلاعباً بالألفاظ حسبما يشاء وفق طبيعة الحدث السياسي والمزاج السياسي العام ونوعية جمهوره المستهدف. وفي حالة الانتخابات تحديداً يصبح الحديث عن السوريين خارج البلاد بوصفهم هاربين من الإرهاب الإسلامي المدعوم أجنبياً أو رهائن لدى القوى الغربية، مثلما كان الحال في حوادث سابقة مثل مؤتمر اللاجئين الذي رعته روسيا في دمشق العام الماضي، مشوهاً للصورة النقية التي يراد إيصالها عن وجود تأييد شعبي جارف للقيادة السورية داخل سوريا وخارجها.وفيما يصل عدد اللاجئين السوريين في المجمل إلى أكثر من 12 مليون شخص، أي أكثر من نصف عدد السوريين قبل الثورة في البلاد العام 2011، يوجد منهم نحو 6 ملايين نازح داخل البلاد ويتوزع الباقي في دول اللجوء والأغلبية منهم يتواجدون في الدول المجاورة لسوريا كلبنان وتركيا والأردن. ومع تعميم مقولة زائفة بأن أولئك اللاجئين هم مغتربون موالون يشاركون طوعاً في الانتخابات من أجل رغبتهم في تثبيت شرعية الدولة السورية وممارسة حقهم الدستوري والاحتفاء بالديموقراطية السورية، يتم نسف جزء كامل من تاريخ البلاد لأن عدم وجود لاجئين يعني عدم وجود انتهاكات بحقهم.وبالطبع فإن خطاب النظام هنا يتدخل في تحديد انتماءات الأشخاص وهويتهم الشخصية. لا يتعلق ذلك فقط بكون الإنسان لاجئاً من عدمه، بل من ناحية الانتماء لسوريا نفسها، بغض النظر عن أن ذلك الانتماء نفسه بات بحاجة لنقاش أوسع لتحديد معناه بعد 10 سنوات من الثورة والحرب في البلاد وأكثر من 50 عاماً على حكم عائلة الأسد. وهنا يقسم الإعلام الرسمي السوريين إلى فئتين كما كان واضحاً في التغطيات التلفزيونية المواكبة للانتخابات، الخميس. الأولى هي أغلبية موالية مؤيدة تشارك وتنتخب. والثانية أقلية من الخونة الذين لا يجب إعطاؤهم مساحة عبر الإعلام الوطني بأي شكل من الأشكال، ليسوا لأنهم معارضين ولا لكونهم لاجئين بل لأنهم باتوا أشخاصاً فقدوا حق الانتماء لسوريا ككل.ومن نافل القول أن صفة اللجوء لا تشكل إهانة لأصحابها بل هي إهانة ووصمة عار بحق من تسبب بها في المقام الأول. وفيما بات اللجوء جزءاً من هوية ملايين السوريين الجديدة يتكيفون معها في بلاد اللجوء، فإنه بات كابوساً يلاحق نظام الأسد الذي عمل على شيطنة اللاجئين طوال سنوات واستخدمهم من أجل مخاطبة الغرب بمناسبة ومن دون مناسبة، عبر إطلاق صفة الإرهاب الإسلامي عليهم وتقديمهم كأخطار أمنية يجب إعادتها لسوريا، يحيث يعمل النظام على أن يكون حارس بوابة ضمن النظام العالمي، ويشكل ذلك مدخلاً للحديث عن شرعية النظام وحقه في الوجود إلى جانب الدول الديموقراطية رغم انتهاكاته لحقوق الإنسان التي تصبح ضرورية ومقبولة طالما أنها تحمي الدول الأخرى من الإرهاب المزعوم.على أن تلاعب النظام السوري دبلوماسياً وإعلامياً بالألفاظ لا يعتبر جديداً أو مفاجئاً، ولعل نظرة النظام للاجئين السوريين وتوصيفه لهم، خارج البلاد تحديداً، تعطي لمحة عن تلك الخاصية التي برع بها النظام خلال سنوات الحرب مستفيداً من خبرة عقود طويلة له في السلطة وممارسة الدبلوماسية في المحافل الدولية، لدرجة أن ضخه الدعائي بات قادراً على تقديم مبررات لا يحتاج إليها أصلاً، وينظر اليوم للانتخابات نفسها بوصفها استحقاقاً محسوماً سلفاً للأسد ضمن مسرحية يتم تكرارها كل سبع سنوات منذ عهد والده حافظ الأسد الذي استولى على السلطة في انقلاب عسكري العام 1970.ومع الاحتفاء الرسمي بتنظيم الانتخابات الرئاسية السورية، الخميس، في 43 دولة أجنبية، معظمها صديقة لنظام الأسد، وتداولت الصفحات الموالية للنظام صوراً من باريس حيث سمحت الحكومة الفرنسية بتنظيم انتخابات هناك، بعكس الحكومة الألمانية، ما استدعى تظاهرة صغيرة لموالي الأسد في برلين بدعوة من أحد أشهر اللاجئين الأسديين كيفورك ألماسيان، شارك فيها العشرات وتم نشر صورها القليلة بكثافة في الإعلام الموالي وصفحات السوشيال ميديا بما في ذلك صفحة "دمشق الآن" التي توقفت تقريباً عن النشاط منذ اعتقال مؤسسها وسام الطير أواخر العام 2018 والتي مازال يتابعها أكثر من 3 ملايين شخص.حجم النشر عن الموضوع ككل يرتبط بموقف النظام من الانتخابات نفسها، التي يصبح تنظيمها ركيزة للدعاية والخطاب الدبلوماسي المتمحور حول "المواقف الغربية الرافضة للحل السياسي" في البلاد، مستقبلياً. ومع نزع صفة اللجوء عن السوريين خارج البلاد يتم تمييع الموقف الغربي الرافض للانتخابات من جهة والذي يربط الانتخابات بمشاركة كافة السوريين فيها بحرية ووجود حل سياسي يكفل إعادة اللاجئين لمنازلهم من دون خوف.ويجب التذكير هنا بأن الأسباب الأساسية التي أجبرت السوريين على النزوح واللجوء مازالت موجودة، مهما كانت غائبة عن الحالة الوردية التي يروجها إعلام الأسد، ومنها الاعتقالات التعسفية والتعذيب داخل السجون، وانتشار الميليشيات ونقاط التفتيش والوضع الإنساني والاقتصادي المأساوي، كما أن الأخبار عن عمليات انتقامية من لاجئين عادوا إلى "حضن الوطن" في السنوات الأخيرة تبقى أمراً متكرراً في نشرات الأخبار، ومن الجيد هنا استذكار "النصيحة" التي وجهها العميد في الحرس الجمهوري عصام زهر الدين، قبل مقتله العام 2018، للاجئين بألا يرجعوا للبلاد، لأن جيش النظام "لن يسامح أحداً" على حد تعبيره حينها.في السياق نفسه عاد جدل الهوية السورية للبروز بفعل ما سبق. والسؤال الذي يطرح اليوم هو هل يحق لموالي النظام الحصول على حق اللجوء في الدول الأوروبية خصوصاً أن قوانين اللجوء عموماً لا تتوقف عند الميول السياسية عند اتخاذ القرار، وتحديداً في حال البلاد التي تشهد صراعاً مستمراً مثل سوريا. كما أن استمرار ذلك الجدل اليوم في شكل حملة معارضة لنشر صور المشاركين في الانتخابات الأسدية من أجل الإبلاغ عنهم، لا يعني بالضرورة تعصباً ونشراً للكراهية بين السوريين أنفسهم، بل يشير إلى حالات فاقعة لشخصيات عملت مع النظام أو كانت موالية له، وباتت حاصلة على حق اللجوء الذي لا يحصل عليه الكثير من المعارضين الهاربين من إجرام النظام.ويحيل ذلك إلى نقاش على المستوى السياسي والأخلاقي، خصوصاً إن كان اللاجئون الموالون للنظام في أوروبا مثلاً، يدافعون عن مواقفهم السياسية ويروجون لها ويشيطنون اللاجئين المعارضين، كحال ألماسيان الذي دعا للتظاهرة الصغيرة في برلين. فيما يغذي وجود أولئك اللاجئين خطاب اليمين المتطرف الداعي لترحيل السوريين إلى بلادهم بوصفها آمنة أو لوجود كثير من موالي الأسد الهاربين من "الإرهاب الإسلامي" والذين لا خطر عليهم بعد اليوم.
مسيرة "حاشدة" تؤيد الأسد في ألمانيا يقودها اللاجئ الأرمني السوري كيفورك ألماسيانالمسيرة حاشدة لدرجة أن عدد سيارات الشرطة التي جاءت لحمايتهم أكثر من عدد الحضورطالما تحبونه لماذا لا تعودون لحضنه وتعيشوا في نعيمه؟ما أقذركم وأذلكمكل بصاق الأرض لا يكفي شواربكم النجسة#قانون_قيصر pic.twitter.com/vs4FrvEY7D
— قتيبة ياسين (@k7ybnd99) June 19, 2020