في الصراعات الكبرى، لا يُكتب التاريخ في ساحات القتال فقط، بل هناك معركة أخرى لا تقل ضراوة، تدور في الأرشيفات وغرف البحث والجامعات؛ حيث تُصنع الذاكرة وتُحدَّد الرواية التي ستبقى بعد أن يهدأ الغبار.
وفي هذا الميدان، يبرز مشروع لافت في جامعة هارفرد: أرشفة كل ما يصدر في إسرائيل من كتب ووثائق وصور ومواد ثقافية منذ عام 1948. مشروع يبدو في ظاهره علميًا، لكنه يطرح سؤالًا حادًا: هل الهدف حفظ الذاكرة الإسرائيلية… أم ترسيخ الرواية الصهيونية بوصفها “التاريخ الرسمي” للصراع؟
الأرشيف ليس صندوقًا محايدًا… بل سلطة تصنع الذاكرة.
تقوم فلسفة الأرشفة على قاعدة بسيطة: ما يُحفظ يعيش، وما يُهمل يموت.
والجهة التي تختار ما يُحفظ وكيف يُصنَّف وبأي لغة يُقدَّم، هي الجهة التي تحدد ما سيقرأه الباحثون بعد عقود، ومن سيمتلك شرعية “الحقيقة التاريخية”.
وبمنح مشروع الذاكرة الإسرائيلية مساحة مستقلة داخل هارفرد، فإن الجامعة لا توفّر أرشيفًا فحسب، بل تمنح الرواية الصهيونية ختمًا أكاديميًا يجعلها أقرب إلى “المعرفة الموثوقة”، في مقابل غياب مشابه للرواية الفلسطينية أو العربية.
هنا لا يعود الأرشيف مجرد مخزن للوثائق، بل يصبح ساحة نفوذ تُحسم فيها معارك المستقبل.
ماذا تحفظ هارفارد… وماذا تُغيب؟
رغم أن المشروع يوصف بأنه أرشيف ثقافي، إلا أن المحتوى يكشف توجهه: كل ما تنتجه إسرائيل يتم جمعه بدقة: صحف، مناشير، خرائط، أدبيات المستوطنات، أرشيف الكيبوتسات، وثائق سياسية وعسكرية، مواد مدرسية، احتفالات، ملصقات، أناشيد… كل شيء تقريبًا.
في المقابل، لا يجد القارئ الرواية الفلسطينية: لا وثائق للنكبة من منظور الضحايا، لا سرديات عربية، لا تاريخ موازٍ. طرف واحد فقط يمتلك المساحة الكاملة.
وهنا يصبح أرشيف الذاكرة الإسرائيلية ليس أرشيفًا للصراع، بل أرشيفًا لمنتصرٍ يريد أن يكتب القصة وحده.
الصهيونية… مشروع كتابة قبل أن يكون دولة..
منذ بداياتها، أدركت الحركة الصهيونية قوة الرواية. كتبت الكتب قبل أن تبني المستوطنات، ورسمت تاريخًا متخيلًا قبل أن تفرضه على الأرض. يكفي أن نتذكر هرتزل وكتابه “دولة اليهود”، الذي مهّد للفكرة في الخيال قبل أن تصبح واقعًا سياسيًا.
لذلك يبدو طبيعيًا اليوم أن تُنقل “ذاكرة الدولة” إلى مؤسسة مثل هارفرد، إنه امتداد لفلسفة قديمة مفادها: من يمسك بالقلم، يمسك بالأرض، حتى لو فقد السيطرة عليها يومًا ما.
نسخة احتياطية لدولة قلقة..
المثير أن المشروع يُسوَّق باعتباره “نسخة احتياطية” في حال تعرضت إسرائيل لتهديد وجودي أو فقدت السيطرة على أرشيفاتها المحلية.
مجرد طرح الفكرة يعكس حجم القلق:
الدولة تخشى الزوال، الذاكرة تخشى الضياع، والسردية تخشى أن تخرج من يدها، ولذلك تُنقل الذاكرة إلى مكان محايد، بعيد عن أي تغير سياسي، وبحماية مؤسسة عالمية تضمن لها البقاء مهما حدث في الشرق الأوسط. إنه تأمين للسردية ضد المستقبل.
الرواية الفلسطينية: ذاكرة مبعثرة أمام مؤسسة عملاقة..
في المقابل، تعاني الذاكرة الفلسطينية من: تشتت الوثائق، غياب مؤسسة مركزية، احتجاز آلاف السجلات في الأرشيف الإسرائيلي، حرق القرى،
تهجير السكان، نقص الموارد، ضعف المؤسسات البحثية.
والنتيجة؟.. باحث بعد عشرين أو ثلاثين عامًا سيذهب إلى أين؟ إلى الأرشيف المنظم في هارفرد. وماذا سيجد؟ الرواية الإسرائيلية كاملة… بينما الرواية الفلسطينية متفرقة أو مفقودة. هكذا يحدث أخطر أنواع الإقصاء: الإخفاء عبر الغياب.
الهيمنة الناعمة: احتلال التاريخ بدل الأرض..
القوة العسكرية قد تسقط، أما القوة المعرفية فتبقى. وعندما تتحول الرواية الصهيونية إلى مادة محفوظة في جامعة عريقة، فإنها تتحول من خطاب سياسي إلى مرجع تاريخي. وتلك ذروة القوة: أن يصبح ما تقوله هو التاريخ، وما يرويه خصمك مجرد حكاية شفهية لا تجد مكانًا في الأرشيف.
لا يتعلق مشروع هارفرد بحفظ وثائق فحسب، بل ببناء مستقبل الرواية. ففي عالم يزداد اعتمادًا على الأرشيف الرقمي والمؤسسي، الطرف الذي يحفظ قصته ويعرضها ويُفوّت غيره الفرصة، هو الطرف الذي يربح الحرب الهادئة.
إنه مشروع يعيد إنتاج الرواية الإسرائيلية بوصفها الرواية الوحيدة الجاهزة للاستخدام الأكاديمي، بينما تُترك الرواية الفلسطينية وحيدة خارج المؤسسة. ولعل أخطر ما في الفكرة أن إسرائيل قبل أن تؤمّن حدودها، تعمل على تأمين روايتها.
الجيش اللبناني ينعى شهيدَيه اللذين استشهدا في اشتباكات بعلبك
بعد العدوان على عين الحلوة.. اسرائيل تحمّل الحكومة اللبنانية المسؤولية
حماس تدين “مجزرة” عين الحلوة: الاحتلال الإسرائيلي يتحمل المسؤولية الكاملة
The post الأرشيف والقلق الوجودي.. لماذا تنقل إسرائيل ذاكرتها إلى هارفرد؟.. بقلم: د. عاصم عبد الرحمن appeared first on .
| كلمات دلالية: الرواية الذاكرة الأرشيف هارفرد أرشيف الفلسطينية مشروع الإسرائيلية |