يشهد لبنان خلال الأيام الأخيرة، حَراكاً سياسياً وأمنياً مكثفاً، يعكس حجم التعقيد الذي يعيشه البلد على وقع تصاعد التوتير العسكري جنوباً وبقاعا، وتداخل المسارات الديبلوماسية بين العواصم المعنية. ففي وقت تتزايد فيه المخاوف من انزلاق الاوضاع إلى مواجهة مفتوحة، برزت في بيروت زيارتان لافتتان، حملتا دلالات تتجاوز الشكل البروتوكولي: زيارة رئيسة لجنة مراقبة وقف النار، الموفدة الاميركية، مورغان أورتاغوس، وزيارة مدير المخابرات العامة المصرية اللواء عباس رشاد.
فجولة أورتاغوس، حملت رسائل أميركية واضحة بضرورة ضبط الإيقاع الداخلي، وتوحيد الموقف اللبناني الرسمي من المفاوضات مع اسرائيل وحسم شكلها، لتفادي الاسوأ، بالتوازي مع قيام واشنطن بعملية إعادة تموضع على الساحة اللبنانية، والإمساك بالمشهد عبر قنواتها السياسية، العسكرية، والإعلامية.
في المقابل، حملت الزيارة المصرية بعداً يتجاوز الطابع الأمني التقليدي، فالقاهرة، التي تسعى إلى تثبيت موقعها كوسيط عربي موثوق به في أزمات المنطقة، دخلت بقوة على الخط اللبناني – الإسرائيلي، اذ جاء رشاد إلى بيروت مزوّداً برسائل من القيادة المصرية تؤكد ضرورة تفادي الحرب عبر تسريع الخطوات الحكومية في ما خص «حصر السلاح»، ومحاولة بلورة تفاهمات غير مباشرة بين بيروت وتل أبيب، عبر اتصالاته مع أركان الدولة اللبنانية ومسؤولين أمنيين، كما رصد «حجم نفوذ» الحزب في القرار اللبناني، ومدى تجاوبه مع الضغوط العربية والدولية، وفقا لمواكبين لمباحثاته.
وفي موازاة الحراك الديبلوماسي، جاء تطيير نصاب جلسة مجلس النواب ليؤكد هشاشة التوازنات الداخلية، وتتويجاً لحالة الانقسام العميق حول الاستحقاقات الكبرى، ومؤشراً إلى عجز القوى السياسية عن التوافق على مقاربة موحدة في القضايا المصيرية.
زيارة اورتاغوس
فالحركة الديبلوماسية التي افتتحتها صباحا، الموفدة الاميركية مورغان اورتاغوس، بعيدا عن الإعلام و «بسرية تامة» من عين التينة، وقبل لقائها رئيس الجمهورية، خلافا للمعتاد، بسبب مشاركة عون في مؤتمر حول الارهاب، حملت معها الكثير من الدلالات، حيث اشارت مصادر ديبلوماسية أن الضيفة، تعمدت لقاء الرئيس بري بهدف أن يكون الطرح مباشرا للثنائي، وتحديداً لحزب الله عبر الوسيط المعتاد، على اعتبار أنه المعني المباشر بموضوع حصر السلاح، مؤكدة أن ما حملته يمكن أن يشكل حلا وسطا بين مطلب المفاوضات المباشرة والمفاوضات غير المباشرة، مقترحةً توسيع لجنة مراقبة «الميكانيزم» وتطعيمها بوجوه سياسية تمكنها من القيام بمفاوضات مثمرة، مستعجلة «الدخول في تفاوض «منتج» مع الإسرائيليّين».
وتابعت المصادر، ان الطرح الاميركي واضح وهو على مرحلتين، هدفه النهائي الوصول في مراحله المتقدمة، الى التفاوض المباشر، على ما سبق واكده الموفد توم براك سابقا لرئيس مجلس النواب، كاشفة ان العرض الجديد يعطي لبنان نقاطا في الشكل لا المضمون، اذ يقوم على اعادة تشكيل لجنة «الميكانيزم»، التي يرأسها ديبلوماسي اميركي، وفقا لهيكلية جديدة، تضم ديبلوماسيين رفيعي المستوى من كل من لبنان واسرائيل وواشنطن، على ان تستعين بالخبراء والاشخاص الذين تحتاج اليهم متى دعت الضرورة، على ان تتفرع منها «لجان متخصصة» لبحث الملفات، وهو استنساخ لطرح اللجان الثلاث الذي سبق ورفضه لبنان.
وتابعت المصادر بان الاشكالية الاساسية تبقى في رفض لبنان وجود «مدنيين ديبلوماسيين»، من غير الاختصاصيين، فالسقف اللبناني، هو لجنة مشكلة على غرار تلك التي قامت عام 2022 ابان الترسيم البحري، وهو ما تراه اسرائيل غير ممكن اليوم بعد كل ما تحقق، والتغيير الذي لحق بالتوازنات القائمة، مبدية اعتقادها ان الزيارة المصرية تندرج تحت هذا السقف، حيث تسعى القاهرة الى القيام بدور الوسيط بين بيروت وتل ابيب، منطلقة من دعوة رئيس الجمهورية للتفاوض مع اسرائيل.
في بعبدا
ووفقاً لاوساط مطلعة على أجواء اللقاء في بعبدا، فإن المناخ كان إيجابيا من وجهة نظر الجانب اللبناني، نافية بشكل قاطع ما تم تداوله حول تهديدات أو رسائل تهويلية، موضحة ان اللقاء اتخذ طابعا تقييميا للمرحلة السابقة، حيث جرى تبادل الأفكار حول تطورات الوضع الميداني والالتزامات المتبادلة، في وقت حرص فيه رئيس الجمهورية على اثارة ثلاثة ملفات اساسية: تفعيل «الميكانيزم»، دون الدخول في التفاصيل، الضغط على إسرائيل لوقف اعتداءاتها، تأمين عودة الأهالي إلى قراهم المدمّرة وترميم منازلهم مع اقتراب فصل الشتاء، مضيفة أن أورتاغوس أبدت استعدادها لنقل الأفكار إلى ادارتها.
رد سلام
وفيما اكتفت كل من بعبدا وعين التينة، بتسريب بعض اجواء اللقاءات مع الموفدة الاميركية، خرج رئيس الحكومة، ليؤكد، ان «هدف أي مفاوضات هو تطبيق إعلان وقف الأعمال العدائيّة ،الانسحاب الكامل من الأراضي اللّبنانيّة المحتلّة، والإفراج عن الأسرى اللّبنانيّين»، لافتًا إلى أنّ «تطبيق قرار الحكومة حول حصر السّلاح، يتطلّب الإسراع في دعم الجيش وقوى الأمن الدّاخلي، وعقد مؤتمر للتعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار».
لقاء السيد
اما العلامة الفارقة في لقاءات اورتاغوس، فكانت في اجتماعها بوزيرة الشؤون الاجتماعية حنين السيد، حيث تطرق النقاش إلى ملف الجنوب، وتحديدا «وضع المراكز الاجتماعية هناك، ومدى استجابتها لأي تطور قد يطرأ في الأسابيع المقبلة».
علما ان المباحثات الاميركية في بيروت، جاءت تحت ضغط المستجدات الأخيرة على صعيد التنسيق الأميركي – الإسرائيلي، والتي تمثل نقطة تحول في السياسة الأميركية، إذ باتت واشنطن ترى في تحركات حزب الله «تهديدا مباشرا لاستقرار المنطقة»، على ما يكرر المسؤولون الاميركيون، تثير قلق المعنيين في بيروت، لما تعطيه من إشارات واضحة بان لا قيود على تل ابيب في حال قررت الرد عسكريا على الطرح اللبناني، خصوصا ان زيارة اورتاغوس الى قيادة المنطقة الشمالية، حملت اقله شكلا اكثر من رسالة، اذ شارك الى جانب القيادات العسكرية الاسرائيلية ووزير الدفاع، كلّ من السفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة يحيئيل لايتر، والسفير الأميركي في إسرائيل مايك هاكابي، في دلالة إلى التنسيق الوثيق بين الحكومتين حول مستقبل العمليات العسكرية في الشمال.
بن فرحان وبرّاك
وفي اطار المواكبة الدولية للتطورات الميدانية اللبنانية ولتفادي الاسوأ، كان أفيد عن جولة سيقوم بها الموفد السعودي يزيد بن فرحان على القيادات في الساعات المقبلة، الا انها أرجئت لايام قليلة، بينما يصل المبعوث الاميركي توم براك اليوم إلى بيروت للقاء الرؤساء الثلاثة وقائد الجيش في محاولة وصفت بالحاسمة قبل وصول السفير الأميركي ميشال عيسى مطلع الشهر المقبل لاستكمال الاتصالات والضغوط الأميركية في الملف اللبناني، بحسب ما أفادت مصادر في البيت الأبيض في الإعلام.
بولس
اشارة الى ان مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مسعد بولس، صرح بان «حزب الله هو من وافق على خطوة نزع السلاح»، مشيرا إلى أن «قرارات الحكومة اللبنانية لا تنفذ بالسرعة المنتظرة، ما يؤخر تطبيق بنود الاتفاق الذي تم التوصل إليه برعاية دولية»، مؤكدا، في مقابلة تلفزيونية أن «الإدارة الأميركية تتابع عن كثب مسار تنفيذ التفاهمات اللّبنانية – الإسرائيلية بعد حرب لبنان الأخيرة»، لافتا إلى أن «المطلوب اليوم هو تثبيت الهدوء على الحدود، وضمان تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه بوساطة أميركية وفرنسية، وبتأييد من الأمم المتحدة»، خاتما أن «الاستقرار على الجبهة الجنوبية يعد شرطًا أساسيا للمضي في بقية الخطوات، وفي مقدمها تنفيذ التزامات نزع السلاح».
مبادرة مصرية
في موازاة الحراك الاميركي، كان رئيس المخابرات المصرية يجول على المقرات الرئاسية، حيث تحدث المطلعون عن دور تحاول مصر تأديته في لبنان، على غرار ما قامت به في غزة، والذي كان له مساهمته في ترتيب اتفاق وقف النار، كما في عملية تنفيذ مراحله، حيث أطلع من التقاهم على الجهود التي تبذلها القاهرة لتثبيت الاتفاق وتطبيقه فعلياً على الأرض، كاشفة ان رشاد أعرب عن استعداد بلاده للقيام بالدور نفسه في لبنان، عبر المساهمة في الوصول إلى اتفاق نهائي، مؤكداً حرص القاهرة على دعم الاستقرار في لبنان ودرء تداعيات التصعيد الإقليمي، معتبرة ان الزيارة يمكن ادراجها، حتى الساعة، تحت عنوان «الاستطلاعية» اذ لا تحمل أي «شيء عملي»، بقدر ما هي عملية «جس نبض»، بدليل حجم «الوفد الجوال»، بين المقرات، والذي ضم اكثر من مسؤول لبناني ومصري.
وإذا كان لا يمكن التنبؤ بما تخبئه القاهرة في جَعبتها من أفكار ومقترحات، استنادا الى الاسئلة التي طرحت خلال اللقاءات وما بين سطورها، إلا أن المصادر تخمن أن محتوى الطرح المصري «المستقبلي» قد يتضمن الموقفين العربي والأميركي تجاه الوضع اللبناني وسبل التوصل الى مخارج من الانسداد الحالي، عبر الوسائل الديبلوماسية وذلك تفادياً لأي حلول عسكرية، ذلك ان الانفجار الواسع لا يخدم إلا الأجندة الإسرائيلية في المنطقة.
جلسة المجلس
وعلى وقع الجولات المكوكية الاميركية والمصرية السياسية والامنية، استكمل الصراع الانتخابي على الحلبة النيابية، والذي انتهت جولته امس الى رفع الجلسة التشريعية بسبب عدم تأمين النصاب، تزامنا مع زيارة وفد من الثنائي للرئيس نواف سلام حاملا المواقف نفسها التي اطلقها من قصر بعبدا، فيما تبقى الانظار مشدودة الى جلسة مجلس الوزراء اليوم لتحديد مصير اقتراح «الخارجية» حول اقتراع المغتربين.
في السياق، أكدت مصادر سياسية أن «الرئيس بري ترك الأمور لديموقراطيتها ولم يضغط لتأمين النصاب ولو أراد ذلك لفعل، ولكنه لا يحبذ التشريع بغياب مكونات أساسية ويريد أن يتحمل الجميع مسؤولياته وعدم مقاطعة التشريع»، وهو ما أشار إليه أيضاً نائب رئيس المجلس إلياس بو صعب، مؤكداً «بالمعلومات أقولها، لو كان هناك قرار بعقد جلسة لعُقدت وعدم حصولها كان مفتاحاً للبدء بحل»، متابعا: «فرحت لأن الجلسة لم تنعقد لأن التشريع في غياب شريحة كبيرة من اللبنانيين ليس الحل الأفضل للبلد»، معتبرًا أن «بداية حل الأزمة هو عدم انعقاد جلسة تشريعية، ومسار الجلسة الحكومية سيحدد بما حصل في البرلمان».
وكانت اشارت مصادر مطلعة على أجواء الرئيس بري إلى أن عين التينة «لم تعر اصلا الجلسة أي أهمية تذكر، لجهة تامين النصاب، الذي لم يكن قط من الصعب تامينه، فالرئيس الذي اعتاد ضبط الإيقاع السياسي، لم يجر أي تواصل فعلي مع أي من الكتل أو القوى النيابية الأخرى، انطلاقا من ان «انتصار» تعطيل الجلسة مجرد «فقاعة إعلامية» ستنتهي بانتهاء الجلسة، اذ تبقى العبرة في النتائج».
الى ذلك، رأت اوساط المعارضة ان «ما يحصل اليوم في البرلمان ليس حدثًا معزولًا، بل خطوة أولى في مسار تصعيدي واضح المعالم، فمقاطعة الجلسات التشريعية تبدو كفاتحة لمسار أوسع عنوانه شل المجلس النيابي، يليه شل الحكومة، وربما لاحقا تحريك الشارع تحت شعارات الإصلاح والعدالة الانتخابية»، خاتمة «مع تصاعد الخطاب السياسي وارتفاع منسوب التوتر، يطرح السؤال بجدية: هل نعيش فعلا بدايات ما تحدث عنه باراك اخيرا، من مقاطعة الجلسات، تعطّل اللجان، وتهديد الشارع بالتحرك، وكلها مؤشرات إلى مرحلة غليان تسبق الانفجار»؟
جبهة معراب – السراي
وعشية انعقاد جلسة الحكومة اليوم، وعلى جدول اعمالها مشروع قانون وزير الخارجية حول تعديلات قانون الانتخاب، كبند اول، شنت القوات اللبنانية، على لسان نائب رئيسها، هجوما استباقيا من ساحة النجمة، باتجاه السراي، حيث توجه الى الرئيس سلام داعيا اياه لان يتبنى موقف الاكثرية التي «لولاها لما وصل الى السراي»، طالبا اليه اتخاذ اللازم، «بعدما بات الامر في المجلس معروفا»، وهو ما وضعته اوساط سياسية في اطار «الزكزكة والضغط»، في ظل «ريبة معراب» من شيء ما يجري طبخه تحت الطاولة، في ظل رغبة الرئاستين الاولى والثالثة، بالابقاء على «العلاقات الطيبة» مع الرئاسة الثانية، فالرئيس عون اكد لوفد الثنائي النيابي الذي زاره، ان بت مصير الانتخابات في يد المجلس، والرئيس سلام حث شخصيا نوابا محسوبين عليه على عدم مقاطعة الجلسة التشريعية، كيلا ينعكس الامر تعطيلا على حكومته.