لبنان على خط القلق في هذه المرحلة، يتجاذبه عدوانان موصوفان يُشنّان عليه في آنٍ واحد، تقود الأول إسرائيل بتفلّتها من اتفاق وقف إطلاق النار وتكثيف اعتداءاتها واغتيالاتها وغاراتها الجوية على المناطق اللبنانية، واستباحتها الأجواء اللبنانية بطيَرانها التجسّسي على مدار الساعة، وخصوصاً فوق بيروت والضاحية الجنوبية. وأمّا العدوان الثاني الذي لا يقلّ خطورة، فتتوَلّاه غرف التوتير والتهويل وقنوات إعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي، تبدو موجّهة للقيام بدور وظيفي في حرب نفسية قاسية ومنظّمة على اللبنانيِّين، لنسج سيناريوهات خطيرة وترويج لحرب إسرائيلية واسعة على لبنان، باتت قاب قوسَين أو أدنى من الاشتعال، لضرب «حزب الله» ونزع سلاحه.
في موازاة هذا القلق، تحوم في الأجواء اللبنانية أسئلة كثيرة تحاول أن تتلمّس المرامي الحقيقية وراء هذا التصعيد الذي تكثف بصورة خطيرة منذ الإعلان عن فشل الطرح الأميركي لإعادة إطلاق مسار الحل السياسي على جبهة لبنان. وإذا كانت تلك الترويجات تُركّز في ضخّها التوتيري والتهويلي على ما سمّته انسداد أفق الحل السياسي، وأنّ فرصه انعدمت، ولم يبقَ سوى سبيل وحيد، هو الحلّ بالقوة وحرب عسكرية تتولّاها إسرائيل لإخضاع «حزب الله» بصورة نهائية، وخصوصاً أنّ الدولة اللبنانية لم تقم بالدور المطلوب منها لنزع سلاح الحزب، وقد ألمح إلى ذلك توم برّاك في تصريحاته المتتالية.
تقدير قلق
قلق اللبنانيِّين مبرّر، مع الضخّ المتواصل للسيناريوهات الحربية الذي يحبسهم في هذه الزاوية، ويصبّ في هذا المنحى «تقدير موقف»، أكّدت مصادر موثوقة لـ«الجمهورية»، أنّه أُبلغ على شاكلة تحذير وتنبيه من قِبل ديبلوماسي عربي إلى جهات سياسية وأمنية في لبنان، وتفيد خلاصته بأنّ «خطراً كبيراً يُحدِق بلبنان في هذه المرحلة، والأسابيع القليلة المقبلة حرجة، لأنّ احتمال أن تقوم إسرائيل بعدوان واسع على لبنان، قوي».
ووفق الديبلوماسي العربي، فإنّ الدافع الأول والأساس إلى هذا التصعيد، ليس استهداف «حزب الله» ونزع سلاحه كما تعلن إسرائيل وتؤكّد عبر المستويات السياسية والعسكرية فيها، أنّ «حزب الله» هدف دائم بالنسبة إليها وكذلك بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، بل هو سبب إسرائيلي داخلي مرتبط برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وعلى ما يُنقل عن الديبلوماسي عينه، فإنّه بعد اتفاق إنهاء الحرب في غزة الجاري تنفيذه بقرار صارم من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بات مسار المحاكمة مفتوحاً أكثر من ذي قبل أمام نتنياهو، وكلّ المؤشرات في الداخل الإسرائيلي تؤكّد بأنّه سيُدان ويدخل إلى السجن. في زمن الحرب على غزة كان نتنياهو يُغطّي هروبه من المحاكمة بتصعيد وتيرة الحرب وفتح جبهات عسكرية جديدة، ومن هنا ليس مستبعداً أن يُكرّر ذلك راهناً، بالهروب من هذه المحاكمة إلى تصعيد وحرب على جبهة لبنان، التي يُنظَر إليها في إسرائيل على أنّها أصبحت جبهة رخوة بعد الضربة القاسية التي تلقّاها «حزب الله».
وأمّا الهدف الأساس الذي يرمي إليه التصعيد أو الحرب، بحسب الديبلوماسيي العربي، فهو «توجيه ضربة قاصمة لـ«حزب الله» وإزالة الخطر الذي يُشكّله على إسرائيل، وفي موازاة ذلك فرض قواعد وترتيبات جديدة سياسية وأمنية على لبنان، بما يعني تحقيق إنجاز يستثمر عليه نتنياهو وحزب الليكود واليمين المتطرّف، لضمان تحقيق الأكثرية الحاكمة من جديد، في الانتخابات النيابية في ربيع العام 2026»، ويعتقد نتنياهو أنّ مثل هذا الإنجاز ينجّيه بالتالي من المحاكمة.
الحرب ممكنة… ولكن؟
إلّا أنّه في موازاة هذه الأجواء التشاؤمية، تقديرات معاكسة، لا تلغي احتمالات الحرب والتصعيد الواسع بصورة نهائية، بل تخالف التقديرات بإمكان حدوثها في هذه المرحلة. ويبرز في هذا السياق، ما يجري تداوله في أوساط سياسية مسؤولة حول إشارات أميركية مانعة لتصعيد واسع على جبهة لبنان. وكذلك ما أكّدت عليه شخصية سياسية على صلة وثيقة بالأميركيِّين لـ«الجمهورية»، لناحية أنّ أولوية واشنطن هي تنفيذ ما بات يُعرَف بـ«اتفاق ترامب» في غزة، ولا تريد بالتالي أن يتعرّض هذا الاتفاق لأيّ مؤثرات من أي نوع، وخصوصاً أنّ مساره التنفيذي يتطلّب بعض الوقت، وتبعاً لذلك، لا ترغب في حدوث توترات أو تصعيد واسع من شأنه أن يُعيد خلط الأوراق من جديد في المنطقة.
وبحسب هذه الشخصية، فإنّ «إنهاء الحرب في غزة، لا يعني إشعالها على جبهة لبنان، يُضاف إلى ذلك، أنّ أولوية واشنطن هي فتح المسارات السياسية في المنطقة، وخصوصاً على جبهة لبنان، وضمن هذا السياق، جاء الطرح الأخير من السفير توم برّاك لإعادة إطلاق مسار الحلّ السياسي، الذي من الخطأ افتراض أنّ هذا الطرح قد فشل أو سقط، لأنّه لا يزال قائماً في أجندة الإدارة الأميركية، وقد يُعاد طرحه من جديد على الطاولة في أي وقت».
كما أنّ هذه الأجواء التشاؤمية، تعاكسها الأجواء التي وُصِفت بالإيجابية، وسادت اللقاءات التي أجراها الرئيس الجديد للجنة الإشراف على تنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية (الميكانيزم) الجنرال الأميركي جوزف كليرفيلد، وعكست من جهة تمسك لبنان بالاتفاق وضرورة إلزام إسرائيل بمندرجاته والإنسحاب من الأراضي اللبنانية والإفراج عن الأسرى اللبنانيِّين. كما ظهر من جهة ثانية حرص واضح أبداه رئيس اللجنة، على الإيفاء بما يتطلّبه إنجاح اللجنة في مهمّتها، واعداً بتفعيل عملها وبصورة حثيثة في المرحلة المقبلة، في الاتجاه الذي يؤكّد سريان اتفاق وقف العمليات الحربية وتعزيز الأمن والاستقرار بين لبنان وإسرائيل.
أي هدف للتصعيد؟
إلى ذلك، وإذا كان التصعيد، على ما يقول مسؤول رفيع لـ«الجمهورية»: «أمراً متوقعاً بصورة دائمة من قِبل إسرائيل التي تُريد فرض مستحيلات على لبنان لا يمكن أن يقبل بها، إنْ لجهة التطبيع، أو ترتيبات سياسية – أمنية تفرض من خلالها منطقة عازلة خالية من الحياة في المنطقة الحدودية، إلّا أنّ المقاربة الموضوعية لهذا الوضع لا تُرجّح الإنحدار نحو تصعيد أكبر، بل استمرار دورانه في دائرة الضغط على الدولة اللبنانية لتنفيذ قرار سحب سلاح حزب الله».
وفي معرض استبعاده للحرب الواسعة، يؤكّد المسؤول الرفيع: «الحرب الواسعة يمكن أن تخلق نتائج غير محسوبة، فيما الوضع القائم منذ اتفاق 27 تشرين الثاني 2026 مثالي بالنسبة إلى إسرائيل، لأنّها تستغل التزام لبنان الكلّي بهذا الاتفاق، وتعتدي، وتغتال، وتُفجّر البيوت في القرى الحدودية، وتستبيح سيادة البلد براً وبحراً وجواً، من دون أن تلقى اعتراضاً من أحد، لا من لجنة الإشراف ولا من غيرها».
ويستدرك المسؤول الرفيع قائلاً: «ثم إذا كان الهدف للحرب الواسعة، هو نزع سلاح «حزب الله»، فالمثال واضح أمامنا، فقد شنّت إسرائيل عدواناً مدمّراً على غزة على مدى سنتَين، للقضاء على حركة «حماس» ونزع سلاحها واستعادة الأسرى الإسرائيليِّين والسيطرة الكاملة على قطاع غزة، وعلى رغم من ذلك لم تتمكن من تحقيق أيّ من تلك الأهداف. فكيف الحال بالنسبة إلى سلاح «حزب الله»؟».
بري: وحدة اللبنانيِّين
المسلّم به، لدى المستويات الرسمية هو «أنّنا أمامنا مرحلة صعبة، وقد تتزايد الضغوط وتأخذ ألواناً وأشكالاً مختلفة في المرحلة المقبلة، وإسرائيل من خلال تفلّتها من اتفاق وقف إطلاق النار حدّدت هدفاً بنسف هذا الاتفاق والإطاحة الكاملة بالقرار 1701، وبالتالي إخضاع لبنان وإلزامه بقواعد وخطوات تمسّ سيادته وتُهدّد وحدته وجغرافيّته». ويبرز هنا ما قاله رئيس المجلس النيابي نبيه بري رداً على سؤال لـ«الجمهورية»: «نحن متمسّكون بالآلية المعتمدة في لجنة «الميكانيزم» التي تضمّ كل الأطراف، وملتزمون بالكامل بالقرار 1701، ولا شيء لدينا سواهما».
على أنّ الأهم بالنسبة إلى الرئيس بري «هو الاستقرار الداخلي والتقاء اللبنانيِّين على ما يحقق مصلحة لبنان. أعطني وحدة بين اللبنانيِّين، أعطيك النصر الأكيد على إسرائيل».
رفع الجاهزية
وكانت إسرائيل قد أعلنت أمس، انتهاء مناورات عسكرية واسعة استمرّت منذ بداية الأسبوع الجاري. وأوضح المتحدّث العسكري باسم الجيش الإسرائيلي أنّ الهدف منها هو رفع مستوى الجاهزية لسيناريوهات الطوارئ القصوى في مجال الدفاع، والاستجابة السريعة للأحداث المفاجئة، بما في ذلك استدعاء قوات الاحتياط وحشد القوات، والانتقال إلى الهجوم، وكل ذلك مع استخلاص العِبر والدروس من عامَين من القتال في كافة الساحات. وتمّ تكييف سيناريوهات التمرين وفق الوضع العملياتي بعد القتال في جنوب لبنان، الذي خلاله تضرّرت القدرات العملياتية لمنظمة «حزب الله» الإرهابية. وشملت السيناريوهات تدريباً على التعاون بين المقاتلين المكلّفين بمهمّة الدفاع في المنطقة، وسلاح الجو وسلاح البحرية، بالإضافة إلى وحدات الدفاع، والمجالس المحلية، وقوات الأمن الموازية. كما تدرّبت قوات اللوجستيات والطبية والتكنولوجيا والصيانة على سيناريوهات إخلاء الجرحى تحت النيران وتقديم الدعم اللوجستي والصياني والتقني في حالة الطوارئ».
وكان موقع «سكاي نيوز عربية» قد نقل عن مصادر أوروبية قولها، إنّ شنّ ضربة إسرائيلية موسعة ضدّ لبنان قد يكون مسألة وقت فقط»، مشيرةً إلى أنّه «من غير الواضح ما إذا كانت إسرائيل ستتعامل مع الدولة اللبنانية كطرف متواطئ أو فاشل».
كما نقل الموقع عن مصدر أمني إسرائيلي قوله «إنّ إسرائيل ترصد محاولات من «حزب الله» لترميم كل قدراته بما فيها قدراته الاستراتيجية. إمّا تنزع الدولة اللبنانية سلاح الحزب أو نقوم نحن بذلك، نحن نرسل مواقع سلاح ونشاط الحزب للجنة التنسيق، وإذا لم تتصرّف نتصرّف نحن، أحياناً عندما يكون هناك تهديد فوري، نهاجمه من دون إرسال تنبيه مسبق للجنة».
وأشار إلى «أنّ «حزب الله» لم يعُد يمتلك نفس القدرات التسليحية ولا القدرات القيادية وفَقَد قدرته بتنظيم هجوم منسق، إلى حدّ بعيد. نحن نتدرّب على سيناريو الحرب ونُعِدّ لـ«حزب الله» قدرات ومفاجآت جديدة، إذا ما اندلعت الحرب، كل ناشط في «حزب الله» ما زال ينشط في الحزب هو هدف لنا، وسنستهدف كل ناشط للحزب في كل مكان».
ولفت إلى أنّ محاولات تهريب السلاح أقل بكثير ممّا كانت عليه. ونحن نرصد أي محاولة وندمِّر ما يصل للحزب».
حماوة إنتخابية
على المستوى السياسي، لا جديد يُذكر على أي صعيد، ما خلا الحماوة التي تتزايد حول الملف الانتخابي، وخصوصاً حول تصويت المغتربين، الذي لوحظت أمس، مزايدة بعض الأطراف السياسية على هذا الأمر، والتباكي على حقهم، وتصويب السهام في اتجاه رئيس المجلس النيابي.
وكان الرئيس بري حاسماً في تأكيده على إجراء الانتخابات النيابية المقرّرة في أيار المقبل، وفق أحكام القانون الانتخابي النافذ، رافضاً تأجيلها «حتى ولو ليوم واحد». مكرّراً قوله «إنّ مَن يُريد أن ينتخب من المغتربين فما عليه سوى أن يحضر إلى لبنان ويمارس حقه في الاقتراع».
وحول الاعتراضات التي تبديها بعض الأطراف على إجراء الانتخابات على أساس القانون النافذ الذي لا ينصّ على حق المغتربين بالتصويت لكل المجلس النيابي، أوضح: «كل الناس موافقة على هذا القانون، ومَن يعترضون اليوم عليه، كانوا من أشدّ المتحمّسين له عند إقراره».