وسط ركام الحرب وقلق الغزيين على مستقبلهم، خرجت واشنطن بخطتها الجديدة لما بعد الحرب، مُعلنةً ما تسميه “خارطة طريق للسلام”، فيما يراها كثير من الفلسطينيين وصفة لإعادة إنتاج الوصاية الدولية على القطاع.
فبينما تتواصل مشاهد الدمار في قطاع غزة ويترقب العالم مآلات الحرب المستمرة، طرحت الإدارة الأميركية ما سمّته “خطة اليوم التالي”، في محاولة لتحديد ملامح المرحلة المقبلة.
الخطة، التي تُعرض كخارطة طريق لإعادة الإعمار وإرساء السلام، تُثير جدلاً واسعًا في الأوساط الفلسطينية، حيث يُنظر إليها بوصفها مشروعًا لإعادة تشكيل المشهد السياسي والوطني في القطاع، لا مجرد مبادرة إنسانية أو اقتصادية.
أهداف رسمية أم إعادة صياغة المشهد الفلسطيني؟
تقدم الخطة نفسها كإطار لإنهاء الحرب، عبر وقف فوري للعمليات العسكرية، تبادل الأسرى والرهائن، وإيصال المساعدات الإنسانية. غير أن القراءة المتأنية للخطة تشير إلى أن الهدف الفعلي ربما يتجاوز إدارة الأزمة الإنسانية، ليشمل إعادة صياغة المشهد الفلسطيني برمّته، نزع أي صفة سياسية عن الحُكم المحلي، وإرساء سلطة انتقالية دولية تُشرف عليها الولايات المتحدة.
سلطة مؤقتة.. هل تتحول إلى دائمة؟
ويخشى مراقبون أن يتحول هذا الشكل الإداري إلى بديل سياسي فعلي عن القيادة الفلسطينية، ما يُعمّق الانقسام ويُفرغ المشروع الوطني من مضمونه. فالخطة تقترح تشكيل حكومة انتقالية مؤقتة من “تكنوقراط فلسطينيين” يُشرف عليها مجلس دولي. التجارب السابقة في مناطق فلسطينية وأخرى حول العالم أظهرت أن ما يُسمى بالمؤقت غالبًا ما يتحوّل إلى واقع دائم، ما يضعف دور المؤسسات الفلسطينية المنتخبة ويهدد شرعية السكان.
التهجير تحت شعارات التطوير..
في الوقت الذي تؤكد فيه الخطة عدم اللجوء إلى “التهجير القسري”، تشير آليات تنفيذها إلى أن ما يُسمى بالاختيار الطوعي أو الحوافز الاقتصادية قد يؤدي عمليًا إلى تفريغ أجزاء من القطاع، بما يخلق أرضية لإعادة التوطين القسري من دون الإعلان عنه رسميًا.
التناقض الأمني: بين تمكين السلطة وحرية العمليات الإسرائيلية..
أكثر البنود إثارة للجدل هو منح إسرائيل حرية عملياتية مستقبلية، في حين يُفترض تمكين السلطة الفلسطينية الجديدة. هذا التناقض يثير تساؤلات حول قدرة الحكومة المؤقتة على فرض سيطرتها على قطاع غزة، ويمثل تهديدًا لسيادة السكان الفلسطينيين على أراضيهم.
حماس: بين العفو والتهديد..
تنص الخطة على منح العفو لأعضاء حماس الذين يلتزمون بالتعايش السلمي، مع فتح ممرات آمنة للراغبين في المغادرة. هذا الإطار القانوني المشروط قد يؤدي إلى تفتيت التنظيم، لكنه في الوقت نفسه يخلق تحديات أمنية وقانونية كبيرة، ويترك الباب مفتوحًا لصراعات جديدة داخل الحركة.
المساعدات وإعادة الإعمار: فرصة أم فخ؟
تؤكد الخطة على ضخ مساعدات يومية وفتح مشاريع إعادة إعمار واسعة النطاق، لكن الغموض في آليات التوزيع، واعتمادها على جهات دولية وإشراف أميركي، يثير المخاوف من أن تستغل هذه المشاريع لإعادة تشكيل البنية الاقتصادية والاجتماعية بما يخدم مصالح خارجية، ويهمّش السكان المحليين.
مخاطر قانونية وحقوقية..
الخطط المتعلقة بإدارة الأرض والحقوق المدنية قد تتعارض مع القانون الدولي وحقوق الإنسان، خصوصًا فيما يتعلق بالترحيل القسري أو الضغوط الاقتصادية.
أي إهمال لهذه الجوانب قد يفتح الباب أمام مساءلة دولية.
من زاوية فلسطينية، لا تبدو الخطة طريقًا واضحًا للسلام بقدر ما تمثّل مشروعًا لإعادة إنتاج الانتداب بأدوات ناعمة: “إدارة مؤقتة بلا أفق سيادي، ومشاريع إعمار بشروط سياسية، وضمانات أمنية تحافظ على اليد العليا لإسرائيل”، ما يضع الفلسطينيين أمام معادلة صعبة: “قبول واقع يُفقدهم القرار والسيادة، أو رفضه ومواجهة ضغوط دولية متزايدة”. ويبقى السؤال: هل يُكتب لغزة سلام يرسخ استقلالها، أم انتداب جديد يُعيد رسم ملامحها دون إرادة أهلها؟..
موقع سفير الشمال الإلكتروني