2025- 07 - 03   |   بحث في الموقع  
logo إقفال مستوصف بلدية الميناء بالشمع الأحمر logo مريم رمضان غادرت ولم تعُد.. هل من يعرف عنها شيئاً؟ logo برّاك يعود إلى بيروت مستمعاً logo كيف سيكون الطقس في الأيام المقبلة؟ logo جرحى بحادث سير مروّع logo Young Entrepreneur Marc El Khoury Launches Vibes: A Luxury Media Agency Born in Dubai logo بيان لدار الفتوى حول العلاقة بين المفتي دريان والرئيس نواف سلام logo فقدان 61 شخصا إثر غرق عبّارة قرب جزيرة بالي الإندونيسية
طرابلس الشام.. مدينة تصغي إلى حجارتها!.. بقلم: د. كلود عطية 
2025-07-03 07:55:26

مقدّمة: حيث تنام الحضارات وتصحو الأزمنة

في الشمال الساحلي من هذا الشرق المتعب، حيث تلامس الجبال كتف البحر كعاشقٍ خائفٍ من اللقاء، تقوم مدينة لا تحتاج إلى ضوءٍ خارجي كي تُرى.


طرابلس، المدينة التي لا تُقرأ من لافتاتها ولا من عناوين نشراتها اليومية، بل من ظلالها التي تتقاطع فوق الجدران، من المدى الذي يعلو المآذن والقباب، من الماء الذي عبر ذات يومٍ قنواتها، وترك في الحجارة صدى خطوات العابرين.



هي ليست مدينتنا فقط، بل مدينة الأزمنة التي لم تولد بعد.


فإذا كانت المدن تُقاس بشوارعها وحداثتها، فإن طرابلس تُقاس بما لا يُقال فيها.


مدن تُبنى بالحجارة، أما طرابلس فبُنيت بالصبر، بالتعدد، وبنحت الذاكرة في الجدران، لا على الورق.



طرابلس: المدينة التي لم تختر انتماءً واحدًا


في طرابلس، لا يُطرح سؤال “متى بدأت المدينة؟”، بل “كم مرّة وُلدت؟”.


من الفينيقيين الذين أقاموا “تري-بوليس” كتحالف تجاري–حضاري، إلى الرومان الذين جعلوا من الميناء بوّابة متوسطية كبرى، إلى المسيحيين الذين زيّنوا جدرانها الأولى بالفسيفساء والصلوات، ثم إلى من أتوا لاحقًا، يحملون أسماء السلاطين والأئمة والخلفاء.


كلهم مرّوا، وكلهم بقوا، لا لأنهم انتصروا أو غلبوا، بل لأن المدينة كانت تسع الجميع.



طرابلس ليست مدينة التبدّل، بل مدينة الامتصاص… امتصّت العابر والغالب والمصلّي والمُغنّي، وتركته حيًّا في تفاصيلها.



الروح المسيحية في حجر المدينة


كأن المسيحية في طرابلس ليست موجودة لتُعلن، بل لتكون.


تحت المساجد الكبرى، تصمت كنائس بيزنطية وصليبية، لا لأن صوتها خافت، بل لأن المدينة قررت أن تكون كنيسةً بمئذنة، ومئذنةً بجرس.


مار جرجس، سانت ماري، كاتدرائية القديسة تيريزا… ليست مجرد طقوس، بل علامات على دربٍ طويل، مشت فيه المدينة بوَقارٍ نحو التنوع.



في طرابلس، الله لا يُعرف من اسمه فقط، بل من الطريقة التي يعبر فيها الضوء من نافذةٍ حجرية قديمة، أو من الطريقة التي تنحني بها قوسٌ فوق صحن الكنيسة أو الجامع.



طرابلس لا تشرح نفسها، بل توحي بها


المماليك لم يبنوا فيها مجرد قلعة، بل أقاموا نصًا معمارياً يقول: “هنا مررنا، لا لنُخضع، بل لنترك شكلًا آخر من الجمال”.


كل قبةٍ، كل مشربيةٍ خشبية، كل حرف محفور في جامع البرطاسي أو في مدخل طينال، هو شهادة أن المعنى لا يُقال… بل يُعاش.



في كل زقاق من زقاق المدينة القديمة، لا تمرّ، بل تعود إلى نفسك.



طرابلس: مدينة لا تنتمي لزمنٍ واحد


لو مشيت من خان الخياطين إلى باب الحديد، فأنت لا تعبر مسافة، بل تعبر طبقات من الروح.


ترى فيها صدى التجار الذين جاءوا من أصفهان ودمشق، وأصوات النسّاجين، وأنفاس المتصوفة.


تسمع فيها شيئًا لا يُدوَّن: خشخشة الذاكرة وهي تتحرّك.



هنا لم تُصنع العمارة فقط، بل صُنعت العلاقة بين الجسد والمكان.


الحمام الطرابلسي ليس فقط مكان نظافة، بل إعادة ولادة.


الزاوية الصوفية ليست بيتَ دراويش، بل قلبٌ نابضٌ بصمت.


الكنيسة ليست مؤسسة، بل دليل أن الروح أعمق من الطائفة.



طرابلس كمرآة للمشرق الذي نكاد ننساه


في عالمٍ يفصل الدين عن الجمال، والتراث عن الإنسان، تقف طرابلس كاحتجاج صامت على ذلك الفصل.


هي المدينة التي لم تُدمّر كنائسها رغم الحروب، ولم تُلغَ أسواقها رغم العولمة.


هي المدينة التي تقول: بإمكانك أن تكون مسلمًا وتحنّ إلى جرس، أو تكون مسيحيًا وتبكي من أذان الفجر.


وهذا ما لا يفهمه كثيرون ممن يكتبون عن “العيش المشترك” كصيغة قانونية. طرابلس عاشت ذلك دون الحاجة إلى اتفاق.



خاتمة: طرابلس، سؤال مفتوح في وجه العالم


لا تحتاج طرابلس إلى ترميم جدرانها بقدر ما تحتاج إلى ترميم مكانتها في الوعي.


هي ليست موضوعًا أثريًا جامدًا، بل نص حضاري حي، يُعيد طرح السؤال الأبدي:


هل يمكن لمدينة أن تكون بيتًا للجميع… دون أن تفقد شكلها الأصلي؟


طرابلس تقول نعم.

لكنها لا تقولها بالكلام، بل بصمتٍ يخرج من جدرانها، من شقوق الزمن، ومن الأزقة التي تنتظر أن يُكتَب تاريخها من جديد، لا بالحبر، بل بالإنصات.

موقع سفير الشمال الإلكتروني





ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top