2025- 04 - 30   |   بحث في الموقع  
logo بيان ترشّح إلى المجلس البلدي في طرابلس logo البلديات في لبنان.. تحديات وآمال (3).. بقلـم: د. عبدالرزاق القرحاني logo زحمة مرشحين في زغرتا.. إنتخابات بلدية تأسيسية لإستحقاقات لاحقة!.. حسناء سعادة logo عندقت تخطف الأضواء… ولائحتان تتنافسان!.. نجلة حمود logo توافق الثنائي يُجهض مسعى حشرهما في بيئتهما!.. عبدالكافي الصمد logo جبل النفايات:هل “للفيحاء” من حلول؟..  logo حريق كبير في الدكوانة.. هل من إصابات؟ logo جراء حادث سير مروع… وفاة جندي في الجيش (صور)
"سرايا الدفاع" في قبضة الشرع
2025-04-05 00:26:50


كنت في السادسة من عمري، أقف على ناصية الطريق الترابي الذي يشق قريتي الصغيرة إلى نصفين. في كل يوم، تمام الثانية ظهراً، كانت عيوني تترقّب المشهد ذاته: رتلٌ من السيارات العسكرية يشقّ الطريق، محمّلة بضباط من سرايا الدفاع. كانوا يوزّعون أكياس "السمون"، ومعلّبات المرتديلا والتونا والسردين، أما المفاجأة الكبرى فكانت الموز ــ ذلك الثمر الأصفر الذي رأيته لأول مرة في حياتي. كانت الهتافات تعلو احتفاءً بضباط سرايا الدفاع وبمنتجاتهم "الفاخرة"، القادمة من مصانع بيروت، كأنها هدايا ملوكية تهبط على قرية فقيرة لم تعرف طعم الرفاه من قبل.على تلك القمم، حيث تنتهي الطرق الترابية وتبدأ مملكة رفعت، شيّد الرجل مدينة داخل الجبل في بيت زنتوت بريف القرداحة: فيلات فخمة، بيوت أمريكية مسبقة الصنع، وخيام مجهّزة لاستقبال الشيوخ، بعدما استولى على أراضٍ عامة وحوّلها إلى ممتلكات خاصة محصّنة. كانت تلك الجبال بالنسبة لنا، نحن القاطنين في أسفلها، تمثل عالمًا موازٍ... عالمًا محكوماً بمنطق القوة.قوة حملتني ذات يوم إلى قمة الجبل، ووقفت أمام الحاجز. سألت الحارس إن كان بإمكاني رؤية رفعت. ضحك وسألني: "وماذا تريد منه؟". أجبته ببراءة: "أريد أن أشتكي له من المعلمة التي تضربني دائماً. ارتفعت قهقهات الضباط، أما أنا، فكنت أُحدّق بدهشة في ذلك المشهد العمراني المُرعب والفخم معاً، الذي لم تكن قريتنا الفقيرة تعرف له مثيلاً.جبروت الاسدفي أواخر السبعينات، كانت سرايا الدفاع قد بلغت ما يقارب 55 ألف عنصر وضابط، جميعهم تحت إمرة رفعت، الذي منحهم من الصلاحيات والامتيازات ما جعلهم طبقة منفصلة عن المجتمع، و"ملوكاً" على جبال العلويين. كانت السمعة تسبقهم، و"القوة" وحدها كافية لأن تدفع طفلاً بسيطاً مثلي للجوء إلى زعيمهم طلباً للعدالة.ولعلّ هذا المنطق ــ منطق السطوة والمرجعية المطلقة ــ هو نفسه الذي دفع رفعت الأسد لإصدار تعميم إلى أهالي جبال العلويين، يعلن فيه نفسه "القائد العسكري والمرجعية الأولى"، في سابقة فجّرت شرارة الخلاف مع شقيقه حافظ الأسد.
رفعت، الذي التحق بالجيش السوري في خمسينات القرن الماضي، صعد السلم العسكري والسياسي بسرعة غير مسبوقة. ترفيعاته جاءت متتالية، كما انضمامه لحزب البعث، في سعي واضح للتموضع تحت دائرة الضوء، في جيش وُلد من رماد جيش الشرق الفرنسي، ليبدأ صراع الأخوين على من يحكم الجبل... ثم البلاد.
لم يكن التعميم الذي أصدره رفعت الأسد، والذي أعلن فيه نفسه "القائد العسكري والمرجعية العليا" لأبناء الطائفة العلوية، مجرد خطوة استعراضية في صراع السلطة؛ بل كان بمثابة تحدٍ مباشر لشقيقه حافظ، سرعان ما تبعته إجراءات ميدانية عمّقت الانقسام.
ففي بيت زنتوت، لم يكتف رفعت بتحصين الفيلات، بل أمر بحفر أنفاق سرية تحت أراضي القرى المجاورة، ما جعل من الجبل نقطة اشتباك محتملة، وهدفاً عسكرياً في حسابات حافظ الأسد. ومع تصاعد التوتر، اقترب الصدام بين الشقيقين، قبل أن يتراجع حافظ في اللحظة الأخيرة، مفسحاً المجال لرفعت ليعيث نفوذاً مطلقاً داخل سجن تدمر، وعلى امتداد مدينة حماة، حيث ارتُكبت مجازر ما زالت محفورة في ذاكرة السوريين.لكن الذاكرة الأكثر قسوة، والتي يصعب محوها حتى من سرديات الخوف، كانت حادثة نفذتها "سرية تشرين" التابعة لسرايا الدفاع، حين أقدمت على خلع الحجاب عن رؤوس النساء في بعض الأحياء، في مشهد أثار غضباً شعبياً عارماً. اضطر حافظ الأسد حينها إلى الخروج عن صمته، وأصدر بياناً رسمياً قال فيه إن "ما حدث تصرّف غير مدروس"، في محاولة لامتصاص الغضب دون المساس بموقع أخيه أو سلطته الفعلية.خلاف الأخوينفي كتابه "ثلاثة أشهر هزّت سوريا"، يروي وزير الدفاع السوري الأسبق مصطفى طلاس تفاصيل واحدة من أخطر الأزمات التي شهدها النظام السوري في ثمانينيات القرن الماضي، حين حاول رفعت الأسد، شقيق الرئيس حافظ الأسد، تنفيذ انقلاب عسكري إثر دخول حافظ في غيبوبة مرضية عام 1984.وبحسب طلاس، فقد تصاعد التوتر إلى حد المواجهة المباشرة بين سرايا الدفاع، القوة التي أنشأها رفعت وتضخمت حتى باتت جيشاً موازياً، وبين القوات الحكومية الموالية للرئيس. بلغ التهديد ذروته حين لوّح رفعت بإشعال العاصمة دمشق إذا لم تُسلَّم له مقاليد الحكم.لكن حافظ الأسد، ورغم حالته الصحية الحرجة، نجح في احتواء الأزمة بطريقة تجمع بين الحزم والسياسة. أجبر شقيقه على مغادرة البلاد، بعد منحه مبلغاً مالياً ضخماً، تكفّل الزعيم الليبي معمر القذافي بتأمينه، في وقت كانت خزينة الدولة السورية شبه خاوية من السيولة النقدية.غادر رفعت إلى منتجعه الفاخر في ماربيا الإسبانية، فيما طُويت صفحة سرايا الدفاع رسمياً. جرى حلّها جزئياً، وتم ضم بعض عناصرها إلى الجيش النظامي، في حين تحوّلت قصور بيت زنتوت، التي كانت معقل رفعت في الجبل، إلى حصن أمني تابع لماهر الأسد، الذي فرض سيطرته عليها لاحقاً.وفي مشهد رمزي يعكس تبدّل موازين القوة، طُلب من سكان القرى المحيطة إزالة صور رفعت الأسد من منازلهم. وقد تم ذلك فعلاً، في لحظة مثلت نهاية مرحلة وبداية أخرى في تاريخ السلطة السورية.في كل مرة كنت أصعد فيها نحو قمة ذلك الجبل، كانت الأسئلة تتكاثر في رأسي: ما مصير أولئك الذين سكنوه يوماً؟ الجبل ذاته الذي كان يوماً معقلاً لرفعت الأسد، أصبح اليوم ثكنة عسكرية لفصيل مسلّح قوامه نحو مئة مقاتل.
القرى القريبة تناقلت أنباء لقاء جرى مؤخراً بين هؤلاء المسلحين ومدير الناحية كما أكدوا لـ"المدن"، وذلك بعد موجة من الذعر اجتاحت المنطقة نتيجة المجازر التي ارتكبت عقب اشتباكٍ مع قوات "الأمن العام" في اللاذقية وبانياس. وفي الاجتماع، أكد المسلحون أنهم لن يغادروا مواقعهم، ولن يتعرضوا لأحد، ما لم يُعتد عليهم.
مشهد سريالي يليق بقمة جبل تبدّلت عليها السلطات وتآكل فيها المجد. هنا، كانت نقطة القوة الأولى لرفعت الأسد، وهناك أسس ابن شقيقه، ماهر، فرقته الرابعة، على ذات المسار، وسط أحاديث تتردد همساً عن صراع مكتوم بينه وبين شقيقه الرئيس، بشار الأسد.
واليوم، تقف قوات الرئيس السوري الجديد احمد الشرع ــ بوجهها الأمني الجديد، وراياتها المختلفة ــ على ذات الأرض، في ذات القصور، حيث صُنع تاريخ النظام السوري المعاصر.
فهل سيكون هذا الجبل شاهداً على ولادة تاريخ جديد، أم مجرد إعادة تدوير لفصولٍ قديمة بثوبٍ مختلف؟


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top