2025- 10 - 18   |   بحث في الموقع  
logo محفوض: ننتظر تسليم بشار الأسد بترقّب ومسؤولية logo فضل الله: الحرب على الجنوب مستمرة بأشكال مختلفة logo وزارة التربية: مذكرة تسجيل الطلاب السوريين تنفّذ قرار مجلس الوزراء بالإجماع ولا رجوع عنها إلا بقرار منه logo مغادرة الرئيس عون والسيدة الأولى إلى روما logo الرئيس عون واللبنانية الأولى غادرا إلى روما logo القصيفي غادر الى المغرب logo لبنان تحت تأثير استقرار جوي.. إليكم التفاصيل logo توضيح "التربية" حول تسجيل الطلاب السوريين في المدارس الرسمية
في أرض "مكوّنات" سورية...عشية الدم
2025-03-08 19:25:54

(*) كان على أحد ما أن يفعل ذلك، أن يتحلى بشجاعة عبور النهر نحو الطرف الآخر الذي لا يبعد أكثر من سبعة كيلومترات. إلا أن سقوط نظام الأسد والخوف الذي زرعه في عقول فئة معينة من الناس بشأن مصيرهم بعد رحيله، جعل الجسر الذي يفصل قريتنا عن مدينة صافيتا برزخاً نحو عالم آخر. أحد ما شجاع بما يكفي، يذهب ويعود سالماً، فتكرّ السُّبحة، ويصبح عبور النهر حدثاً اعتيادياً لا ينطوي على أي بطولة.كنت ممن انتظروا أن يعود الفعل البطولي إلى اعتياده حتى أقوم بخطوة العودة إلى عملي. لم يكن أي تغيّر يُذكر قد طرأ على معالم المدينة، باستثناء أن الأعلام الحمراء المذيلة بعبارات موالية لسلطة الأسد، استُبدلت بأخرى خضراء موالية للسلطة الجديدة، وباستثناء أن عدد الناس في السوق في أعظم أوقات الذروة كان أقل من أن يشغل أصابع يد واحدة. عودتنا كموظفين، اللاشيء الذي يحدث عندنا، والجوع الذي بدأ يخدش شبابيك البيوت، كانت من أسباب أن تعجّ الأسواق بالمارة مجدداً، بعد أسابيع على سقوط النظام، وأن يصير الباعة أكثر من المشترين، والبسطات أكثر من الأرصفة.بعد انتهاء مرحلة الخواء في الشوارع، لم يعد شيء يثير التخوف سوى سيارات البيك أب المسرعة المحملة بالملثمين المسلحين، وبعض عناصرها الموزعين في الساحات. البضاعة التركية الرخيصة ركلت عجلة الاقتصاد، وأصبحت "التريند"، يجتمع الناس حول سياراتها وبسطاتها في مشهد خدّاع يوحي بالارتياح، ويتناقشون في جودتها ورداءتها في الاجتماعات التي سئمت سيرة السياسة.البائع الإدلبيكنت أؤدي دور المراسلة. أعود من عملي محمّلة بالصور والأخبار والإشاعات. أنقلها بمصداقية إلى آذان العائلة، حتى ذلك اليوم الذي قررت فيه أن أنقل الطعم أيضاً. توقفت لشراء البسكويت التركي، فخرج صوت من ورائي يسأل البائع: "من وين الشباب؟". ثم لا أدري ما الذي دفع بي خطوتين إلى الخلف مع نظرة مذعورة صوبتها نحوه وهو يجيب "من إدلب"، إدلب التي كانت في أفكارنا، نحن الذين يسموننا اليوم المكوّنات، أرضاً مسكونة بالشياطين. كنت أضحك وأنا أروي لهم كيف بدأ يبرر "بس نحنا مو سمر كتير، ولهجتنا شامية"، وكأن الخوف من القتل الذي سكننا، قابَله خوف من النبذ قد سكنهم. الرجل السائل عن هوية الشبان، ترجم خوفه الواضح في صوته المتهدج على شكل دعاء وامتداح لهم، وإذا به ألبير كامو يصدح في رأسي: "أحقر الاحترام ما بُني على خوف".لم أنم تلك الليلة، وضعتُ عشرات الأسئلة لأطرحها على الشاب في اليوم التالي، كي أكتب عن الأفكار والاتهامات الجاهزة التي غرسها النظام في كل منطقة عن المنطقة أخرى، وحزنت كثيراً عندما لم أجده. لكني طرحت بعضها على بائع إدلبي آخر، شعرتُ بتحول نبرته نحو الارتباك عندما قدمت نفسي ككاتبة في المواقع الصحافية بعدما كنت مجرد زبونة ثرثارة، وانتبهتُ إلى ميل إجاباته نحو الاقتضاب والمثالية. لقد ارتاب مني، وأجابني عن سؤالي عما إذا كان الناس يخافون منه، بأنه هو من يخافهم، فهو الذي جاء بقدميه إلى "عش الدبابير".صافيتا ليست سوى مدينة مسالمة صغيرة، عادت إليها الحياة بصورة شبه طبيعية بعد قرار حل الفصائل وانضوائها تحت راية الأمن العام. أو ربما أنا التي اعتدت القدوم إليها كل يوم، فلم أعد أجد فيها ما يثير القلق. القلق الذي تملّكني عندما اضطررت للذهاب إلى مدينة طرطوس، مركز المحافظة. أما فعل "اضطررت"، فهو ليس مجازاً، فأجور السَّير الباهظة وصيت الحواجز الذي ذاع بسبب أفعالها المهينة على الطريق بين المدينتين، كانا سببين كافيين لأن يعدَّ المرء للمئة قبل أن يخطو هذه الخطوة.لا موسيقى تطوي الطريقإلى طرطوس... من يألف ركوب باصات النقل العام في هذه المدينة الساحلية، يعرف مزاج سائقيها وعلاقتهم بالأغاني التي تقصّر المسافة المكرورة وتطوي الطريق: راديو فيروز في الصباح، و"فلاشة الأغاني الشعبية" في أي وقت آخر. ويعلم أن أولى العلامات الفارقة التي يلاحظها أي راكب في مرحلة "ما بعد التحرير"، هو الصمت المطبق في واسطة النقل، بعدما تحدث المتنقلون عن صراخ الملثمين على الحواجز "قبل حل الفصائل" على كل سائق يدير مذياعه، فالموسيقى "حرام"، حتى إن السائق الذي ذهبت معه أخمد صوت الإذاعة المتمتمة بإعلانات الألبسة في المولات قبل أن يصل الحاجز.العلامة الفارقة الأخرى هي نساء اعتمرن القبعات، ومنهنّ من أسدلن شالات على أكتافهنّ بوضعية متأهبة لتصير غطاءات رأس، فالجميع تحدث عن إهانات وُجهت لبعضهن، خصوصاً الأكبر سناً، بسبب عدم ارتداء الحجاب، أو بسبب الجلوس في الكرسي إلى جانب السائق. ورغم تأكيد الجميع أن أحداً لم يعد يعلّق على هذه التفاصيل بعد حل الفصائل، إلا أنني شعرت بقلق استمر من لحظة انطلاق المركبة، حتى لحظة نزول الشاب "غير المحرَم" الجالس بجانبي قبل بلوغ الحاجز.توقّعت أن أرى رجالاً بهامات ضخمة مدججين بأسلحة ثقيلة، لكنني فوجئت بهم شباباً لم يتموا العشرين ربما، ذكّروني بأقرانهم ممن سيقوا إلى الخدمة الإلزامية في عهد الأسد، أولئك الذين دخلوا الجيش مرغمين بشوارب غير مكتملة، ولم يخرجوا منه قبل أن يخط شيب العمر والرعب سطوره في لحاهم الكثة. في الباص كان ثلاثة شبّان، لم يفهموا عبارة "أش عيمل" التي قالها الشاب على الحاجز بلهجة إدلبية فظة يفضح الارتجاف ضعفها، وبعد تبين ترجمتها الصحيحة التي تعني "ما هي وظيفتك"، أجابوا بنبرة مرتجفة أيضاً بأنهم طلاب جامعيون. طلب بطاقات هويتهم فسلّموه إياها تماماً بالقلق الذي كانوا يسلمون به "دفتر العسكرية وورقة التأجيل" التي كان يطلبها عناصر حواجز النظام. لا أنكر بأن أي أمل في التغيير كنت أرجوه في داخلي، قد تقوّض بعدما رأيت مشهد خوف الشبان يتكرر بالحَرفية ذاتها، وبعدما أن رأيت عنصراً من الحاجز يشد حزام سرواله منهياً تبوله في الأرض الزراعية القريبة، تماماً كما كان يفعل عناصر حواجز النظام!في الكراجات بعد غياب سلطة الأسد، لم أستطع إلا أن أتذكر بيتنا في غياب والديّ. كنت وإخوتي صغاراً نستغل هذا الوقت لفعل كل ما كانوا يمنعوننا عن فعله في حضورهم. لا أحاول أن أقدم سلطة الأسد كنموذج أبويّ، لكنني أحاول أن أصف الآية المعكوسة حرفياً: في السابق كان مدخل الكراج مخصصاً للمارة والسيارات فقط، يمنع النظام افتراش أي بسطة في أرضيته، وكان فيه من النذالة بأن يتغاضى قليلاً عن البسطات ثم يباغتها بمصادرات وغرامات تعسفية تكسر ظهر الفقراء من أصحابها. أما اليوم، وبينما يسلك الباص طريقاً مختلفاً نحو موقفه الجديد، أكاد لا أرى الإسفلت في تلك المنطقة، كان كل ملليمتر مشغولاً بالبضاعة، وكل ذرّة هواء محملة بتردد أسطوانة تروج لمنتج مختلف، وكأن هذه الأرض التي تتصرف الآن بحرية وفوضوية مطلقة من دون تعي أي مصير ينتظرها، تتعرف للمرة الأولى على معنى الرفض، فتصرخ بكل جوارحها بعد عقود من الكمّ، مؤكدة قول مارلين فيغرسون: "أن الوجه الأخر للخوف هو الحرية".____________(*) كُتِبت هذه المدونة قبل نحو أسبوعين من الأحداث المهولة التي يشهدها الساحل السوري اليوم... ورغم أنها تبدو اليومن للوهلة الأولى، آتية من "عالم آخر"، إلا أنها تحمل من الدلالات الكثير كمسودّة للراهن الساحلي، كمفتاح من مفاتيح الفهم، كمقدمة تمهّد الأرضية لكتاب.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBAANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top