2025- 11 - 19   |   بحث في الموقع  
logo شارل الحاج اعلن عن إطلاق رؤية جديدة لقطاع الاتصالات logo مخزومي يطالب بمعالجة الإشكالية بين الجيش وواشنطن بسرعة logo البستاني: خطوة استعادة الأموال تعكس التزام العدالة المالية logo دريان يلتقي وفد مجمع مركز الإمام البخاري logo بالصورة: توقيف سارق سيارات logo قبلان: مواجهة الغارات تتطلب التضامن الأمني والدفاعي الشامل logo مطر يزور مدير قوى الأمن الداخلي logo لقاء مالي لمعالجة الفجوة بين المصارف والدولة
"الشارع لِنا"
2025-02-03 16:55:58

إن أردتَ أن تذبح مدينة، إقطع أوردتها. ووريد المدن شوارعها، شبكة شرايينها المعقدة التي تحمل الأوكسجين المدمّى لقلبها وتبعثها حيّة. في لعبة السلطة، لطالما تم التنازع على الفضاء العام بمعناه الأولي البدائي، والآخر المجازي المحمّل بالرموز. يحوّل المحتجون الشارع إلى ملكية مستحقة يسعون لتحريرها فعليًا ومجازيًا من هواء فاسد، ومن فكرة غير أصيلة. يقيمون فيه المتاريس، يعيدون تركيب مفاهيمه وتحويله إلى بيان إعلاني عن الوجود، جاعلين من أرصفته سجلًا ناطقًا بشعاراتهم ورسائلها. وبطبيعة التطور العضوي للمفاهيم، يتحول التنازع على الشارع من صراع على الإسفلت، إلى اصطراع متواتر على من يكتب التاريخ.في ثورة 25 يناير، حضرت مفردة الشارع ببهائها، رُفعت كشعار، وترسخت كمطلب. هتف الشباب المصريون، الشابات خصوصاً، محتفيات بفعل غنائي لمنجز لم يكن حقوقيًا أو سياسيًا فقط، بل أسمى وأكثر علواً. وغردن بعاميتهن المحببة "الشارع لِنا"، وقد كان. في تلك الأيام، تمددت شوارع القاهرة كأوردة تنبض بالحشود، تقودهم نحو ميدان التحرير حيث يهتز التاريخ تحت أقدامهم. من قصر العيني، تصاعدت الهتافات أمام البرلمان، بينما تحول محمد محمود إلى ساحة حرب، غارقًا في الدخان والرصاص. عبر طلعت حرب وعبد المنعم رياض، تدفقت الجموع، تصدت لـ"موقعة الجمل"، فكان ما حدث من ملهاة، هو اختصار شديد التكثيف لصراع حداثة ومخيلة ولغة. ومن رمسيس، اندفع السائرون كالنهر، يعبرون الجسور برمزيتها ليصلوا الأمكنة قبل أن تقطع أوصالها. كانت الشوارع تكتب التاريخ بوقع الأقدام، وأدت كل الطرق إلى التحرير.في كتابه الملهِم The Production of Space (إنتاج الفضاء)، يشرح هنري ليفبفر بأناة وبإتقان شديدين كيف أن الفضاء لم يكن مرة محايدًا. إنه نتاج معقد، شديد التركيب من العلاقات الاجتماعية وصراعات القوة والخيال الجمعي. ويحضر هذا الدور ويتأكد خلال وأثناء الثورات، فيستعيد المهمشون والمضطهدون والمحرومون الشوارع. فهي متراس مقاومتهم، وحضورهم في تلك الشوارع يمارسونه بإصرار وبقصدية كحق في الوجود، مستشهدين بحضور هذه المفردة العمرانية بعمقها السيسيولوجي في وجدانيات كومونة باريس، ومسيرات حركة الحقوق المدنية في أميركا، معيدين على الدوام إنتاج المفاهيم حول الشارع كمكان للتحدي. بينما يصر دون ميتشل، في كتابه The Right to the City (الحق في المدينة)، على تدوير هذه الفكرة ويعطيها امتدادًا أكثر ثورية، مذكّرًا أن الشارع، الحاضر في مروية الأمكنة، هو مناسبة ملائمة لإقرار القوى وقوة حضورها في الحياة العامة. فعندما يملأ المتظاهرون الشوارع، فإنهم لا يحتلون مساحة مادية فحسب، بل يعيدون تشكيل السلطة. ويتلاعبون بديناميكيتها ويؤسسون بروتوكولات مغايرة لتبادل تلك السلطة بينهم وبين من يحكم، حيث يصبح الشارع اسكتشًا واقعيًا لشكل الحكم ومكوناته.في الدول ذات الديموقراطيات العريقة، أو حتى الديكتاتوريات اللاعنفية إن صح التعبير، قد يصبح الشارع مسرحًا كبيرًا، يمارس فيه الثوار دورًا لِعبياً بمعناه "المُتعَوي"، حيث قد يصبح النزول إلى الشارع، عملية لجس النبض، ومقياسًا حقيقيًا لرسوخ الأنظمة وثقتها في مؤسساتها. قد يرتدي المحتجون الأزياء - سواء الكوفية التي يرتديها النشطاء الفلسطينيون في أوروبا وأميركا، أو السترات الصفر التي يرتديها العمال الفرنسيون – مغالين في طقوس التنكر ذاك. إذ يوقنون ويعلمون تمامًا، أن الشارع هو المكان الذي لا تُخاض فيه الثورة فحسب، بل حيث تُبث رموزها وإيماءاتها إلى العالم. إنه المكان الذي تصبح فيه علامة الغرافيتي بيانًا سياسيًا، ويصبح الرصيف مكانًا للقاء وتبادل الهتافات كصرخة موحدة ضد طغيان تم الاتفاق حوله منبعه، فيحمل الشارع رمزية مضافة، حيث يتم تنفيذ وتضخيم البعد الحكائي للفعل الانقلابي على السلطة.لكن في الثورات على الأنظمة فضائحية الهمجية والعنف، تدفع تلك الحكومات تجاه صراعات أكثر تعقيدًا من أن يتحملها الشارع. ففي حصار سراييفو مثلًا، في الفترة من 1992 إلى 1996، نشأ مفهوم عمراني سمّاه الدارسون Warchitecture وهو مصطلح يدغم بين كلمتي العمارة والحرب، حيث التدمير المتعمد للمباني يعتبر سمة مميزة للحرب. وباعتباره مزيجًا من الحرب والعمارة، فإن المصطلح يتحدث عن أكثر من مجرد الدمار المادي للمدن – فهو يجسد الطريقة التي تعيد بها الصراعات تشكيل المناظر الطبيعية العضوية المدينية، ومحو الذاكرة الثقافية، وإعادة تعريف لوظائف المساحات المعمارية. بحيث لا يتم تعقب ما دمرته الحرب في نسيج المدينة بل الأمكنة والفضاءات التي حُولت وظيفتها بشكل نهائي.في تاريخنا القريب، تم تمييز نوعين من الاحتلالات لفكرة المدينة/ الشارع. حيث في قلب سراييفو، انقلبت الطرق إلى مسرح للموت. القناصة سيطروا على مداخل المدينة، وأصبحت كل خطوة تجاه الشارع لعبة روليت روسية. المدينة المحاصرة، التي كانت تحتفي بتاريخها وتنوعها، تحولت إلى مكبّ للنفايات البشرية. استبدل الشارع برمزيته المعلنة كطريق يصل بين الأمكنة، إلى أنفاق وخنادق لا مرئية، لم يعد للشوارع وظيفة معلنة سوى كونها "مناطق حظر". في دمشق، الأمر كان مختلفًا. فالحصار لم يكن خارجيًا بل تم تفكيك نسيج المدن، حتى التهتك، لتناسب حجم الرعب المتبادل. لذا عند استشعار التهديد، تُقطع أوصال المدينة، ليعاد ذبحها مرة بعد مرة.يحب السوريون وأنا معهم أن يضعوا الماضي وراءهم، يحبون استعادة ما خسروا. وما خسره السوريون هو ممارسة إنسانية لحق لا نقاش فيه، أن تقول لمن ظلمك: قد ظلمتني هتافًا وصراحة ووبعلو الصوت. لكن في بلدنا شديد الجمال، شديد الحساسية، شديد التفجّر بالاختلاف وسوء الفهم، المعبأ بتراكمات فضلاتية للطائفية التي دفعوا إليها دفعًا، حرم السوريون شوارعهم، حرموا من التنفس، لم يكن هناك من وجه لعبيّ، ولا "مُتعَوي" للثورة. حضر الدم سريعًا وحول حياتنا إلى تراجيديا "مملة" شديدة الواقعية.أحب أن أصدق أننا نقف الآن على أبواب الحرية، فهل هناك من أمل بعد ذهاب العتمة لاستعادة فضاءاتنا المنهوبة، لاستعادة شوارعنا؟


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBAANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top