تنتظم الحياة الفلسطينية منذ النكبة الأولى ١٩٤٨، في منظومة لغوية، تؤلّف كل مفردة منها خطاباً مستقلاً بمراجعه وتحولات كينوناته الحادة. وإنْ كانت هذه الكينونات في حالة صيرورة واضطراب دائمين، فبسبب القوة الدافعية للهوية الفلسطينية التي تأبى تسميةً ناقصة، أو تأويلاً مؤقّتاً للقضية والمصير. فهي تدفع بقاموسها للتوسّع والامتداد مقابل الدفع الاستيطاني للاحتلال، والمخطّطات العالمية للانتقاص من "الأرض" و"القضية" و"الهوية" و"المصير". فمن أجل هذه الحدود الأربعة تتفرّع الخطوط والكميات والتكتيكات الثانوية، المرتّبة في الصفّ الثاني من الدلالات الأربع الكبرى، مثل: "المقاومة" و"الفداء" و"الوحدة" و"الاصرار" و"الصمود" و"التضحية"... الخ.
مقابل الصفوف الدلالية العليا، يتفرّع القاموس الفلسطيني إلى تضمينات بينيّة وحينيّة وارتباطات شبكية وامتدادات عولمية لا حصر لها، ما دامت الأصول والمسمّيات الدافعية تتكلّم بلسان حيّ، وتنبض بمشاعر دفّاقة، وتفكّر بعقل استراتيجيّ قابل للنقض والاستيلاد الحيويّ. تلكما الحيوية اللغوية التوليدية للفلسطينيين، المقابلة لشبكات العدوان والتهجير والفواجع الجيوسياسية، قادرتان على صنع توازن وتقابل دلاليّين، يقوّي لغة التداول والتنازع في أي عملية تفاوض واستبدال على الحق المكتوب والكتاب المؤجل للقضية الفلسطينية، والمصادرة الاحتلالية الإسرائيلية، سواء.
ستنمو في الشقوق التدميرية للاغتصاب الفلسطيني آلافُ المفردات التعويضية، ذات الخصوبة الشرعية والبناء الذاتي للأجساد والأرواح المضحية. سيولّد التقويضُ البربري للهوية الفلسطينية مفرداتٍ ترفد القاموسَ ببدائل مقاومة ودعائم صلدة من الدلالات البرعمية الجديدة. تصوّروا لو أن صفّاً موازياً من المفردات الأساسية: مثل: "النكبة" و"الغربة" و"الشتات" و"النزوح" يزيح اللحظةَ المصيرية الراهنة ذاتها- لحظةَ "الهدنة" المكفولة بأكثر من لغة دولية- ويولّد من رحمها قاموساً يشقّق من لسانه المصدوع والمفجوع لغةً تؤسّس لما بعد الصفّ السابق من المفردات، وينشئ قاعدة بناء- ما بعد لغويّ، تتجذّر في البحر الفلسطيني الممتدّ آلاف السنين تحت الصفّ الأخير من لغة التفاوض والتنازع والنقض والقبول على مجمل الصفوف والتفريعات من مواد القاموس القديم.
لا تؤدي التقابلات اللغوية- القديمة والجديدة- لسوى هذا الاشتقاق- الاستحقاق المنزوع من تحت الأنقاض، وفي أروقة التفاوض العالية السقوف- بألسنةٍ مختلفة وإرادات مخاتلة. اللغة الفلسطينية تتقدّم ككتيبة مسلّحة بقاموسها الفريد، بحقائقه الساطعة فوق زبد الموجات التفاوضية. أيّ مصير معذَّب، وضمير مصلوب، ستتكفّلهما لغتُهما وحدها من دون اللغات الساندة، الصريحة والمؤوَّلة بأكثر من قاموس مسلّح بأطنان من هذر الألسنة الوسيطة!
إن الصفّ القلِق من قاموس "الهدنة"- التفاوضية بأكثر من لغة وسيطة- سيساوي صفّاً لغويّاً ولِدَ بين "هجرتين" نازلة من الشمال إلى الجنوب، وصاعدة بعكس الاتجاه. إنّها الحركة الأخيرة التي تسحب وراءها غباراً متصاعداً من نشوء مفردات متفرّعة من المفردة الأساسية "النزوح". وما أدراك ما حجم هذه الصفوف من الولادات العسيرة، المسمّاة بأسماء البيوت والأشخاص الذين حُذفوا من قاموس "النكبة" الأولى؟ وما تراها هذه الصفوف التي حلّت محلّها؟ إنّها مجموعة الصفوف المهيأة لجولة قادمة أكبر صعوبة وأخطر مساومة. ولا شكّ في أنّ الصفوف اللغوية الجديدة، قد اكتسَت بطبقات من غبار "الهجرة" و"العودة" وما تفرّع عنهما من إحصاء الجثامين وتبادل الأسرى وتفقد الأشياء وتجديد الصلات العائلية والاستعداد لطقس أشد فقراً وعزلة وأمرّ ذكرى! ومهما كانت الأحوال والتقابلات المصيرية، فإنّ القاموس الفلسطيني حقيقةٌ مطروحة على طاولات التفاوض- بأيّ لسان.
(*) مدونة نشرها القاص محمد خضير في صفحته الفايسبوكية